حسين خوجلي

قــــل هــــــذه سبيلــــي


< كان الأب يفكر طويلاً في المصير الذي ينتظر أبناءه، الدراسة والعمل والتقلبات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، كان حين ينام الجميع يتسلل إلى غرفهم فينظر إلى أطفاله في حنين وخوف ويداري دموعه. (3) أبناء في هذا الزمان المنكفئ.. أمريكا تحكم الدنيا وإسرائيل تحكم العرب.. والتمزق يحكم المسلمين.. والفقر واللا برنامج يحكم الأقطار.. والخوف يحكم الأسرة والإحباط يحكم الفرد. أغلق الباب في حذر، وخرج إلى الحوش الصغير يداعبه (نسيم الخريف) والليل الفجر، فافتقدته الزوجة، لحقت به ووجدته كالنقطة المضيئة في فضاء مفتوح ومهيب من الظلام والصمت والوجوم ووشوشات الأشياء والأصوات. رغم العتمة برقت خيوط الحيرة على عينيه، ورغم الظلام فقد رأت خلسة بيدراً من القلق على وجهه الطيب. لم يخبرها بأصل القضية، لأنه كان يرى أن شرح الكليات للنساء يفسد عليهن سلامهن الداخلي، فاعتذر ببعض احتياجات الأطفال الآنية الملحة. فربتت على كتفه وقالت (الله كريم). هذه العبارة التي تبدل اللا أشياء الى أشياء. وتحيل القلق إلى طمأنينة وترد الإنسان الى أصله الأول الزاهد جرعة وابتسامة واستعداد للرحيل. صلى معها الفجر واصطف خلف الأطفال وقرأوا قرآن الفجر المسؤول وشربوا شاي الصباح وتوكلوا.. وقد أسقطوا كثيراً من التكاليف والمصاريف، لأن الله ييسر في لطف، فأطفاله لم يمرضوا منذ (6) أشهر، وقد عاد جاره الثري البارحة لعلاج قلب طفله بالأردن. وما احتاج لأساتذة ودروس خصوصية، لأن أطفاله كانوا أوائل صفوفهم. كان محمد علي التمرجي يحس دائماً عبر داخله المستنير الذي استلهمه من عمل النقابات وتنظيم زملائه، أن هنالك واجباً إضافياً لا يستطيع أن يقدمه لأطفاله المتطلعين للثانويات. كان يحس أنهم دائماً يحتاجون لمواهب قابلة للتطوير والتعدد والشمول، كان يحس أنهم يحتاجون لإجابات صارمة في أسئلة حتمية تشكل نسيجهم العاطفي والعقلي وتصونهم من التوترات والقلق. كان يحس دائماً أن التلفزيون وساحة المدرسة والأساتذة المكدودين والمجتمع العاصمي المبعثر والمنشغل (وكورة العصر) لا تقدم أي تجويد يمكن أن يواجه هذا الزمان القاسي، الحركة النقابية علمته الاحتجاج والتعبير عن الذات والإضرابات. ولكنه كان يحس دائماً أنه وزملاءه عاجزون عن طرح البدائل وتقديم اقتراحات عبقرية لحل الأزمة بشمول. لذلك كان يحلم بأبنائه وهم يعبرون مرحلة الاعتصام والإضراب وفرض الأمر الواقع إلى مرحلة الإنجاز والصبر على الحلول المسلحة بالعلم والتجريب، كان يحلم بهم فريقاً عامراً بالثمرات لا من قطاع (المساكين الما بعرفوا الدنيا)!! كان عجزه يحاصره تجاه نفسه وأبنائه، كان يلمح في أعينهم حيرة تخفيها الاهتمامات الهامشية، تلمس المجتمعات والمساجد والأندية عله يلمح دائرة استقطاب لأبنائه، فلم يجد إلا اعتياداً يضرب الجميع ورتابة وحيرة.. كانت الأرض تمتد في تراب مهول والسماء تسبح في نجيمات ليست متاحة للتسويق أو التداول. كانت الأم ترقب همه في صمت ولاتفهم، وكان الأطفال يلحظون أسئلته الحائرة وإجاباته المبتسرة، فيصمتون في نصف الطريق. وفي قلب هذه الظروف وخطة التوازن الصعب ما بين المتاح والمطلوب والأحلام تصله وريقو نظيفة مطبوعة باهتمام تبشر بقيام معهد طوعي وشعبي لتأهيل الطلاب، فرح جداً بالخطاب وأحس أن به آمالاً أكثر مما في الحروف والدعوة. وجدهم ثلاثة من أساتذة المدارس الثانوية الشباب، ورابعتهم زميلتهم هدى، اضطرب حين شاهد أشكالهم أقرب للتمرد والطلاقة بشعر أكثر من المطلوب، ولحية أطول من المطلوب وبنطلونات جينز بين البساطة والزهد، كانوا للتشرد ومدارس الرفض والفن أقرب، فزادوا حيرته للحظات، بددها طلب أحدهم حين اقترحوا عليه أن يصلي بهم صلاة الظهر، فكاد أن يهتف من الفرح، قالوا وقد توزعوا الحديث بينهم إنهم يريدون أن يطبقوا تجربة جديدة في الإجازة الصيفية لتدريب أبناء الشعب في بعض مناهج الثقافة العامة والتدريب العملي والمهني في بعض الأوليات وتنمية روح الفريق واستغلال إمكانات (الحارة) في ذلك. وبعد أسبوع واحد امتلأت المدرسة الابتدائية بالأولاد والبنات، واختار الأساتذة كادراً من أبناء الحي المتميزين في المجالات المختلفة، الطب والهندسة والعلوم والصيدلة واللغات والإلكترونيات والتدبير والتدريب المنزلي. صار الجميع تارة طلاباً وتارة أساتذة حتى (عوض طابور) نجار المزاج صار أستاذاً للخشبيات، ولأول مرة تجد هند جنيدابي فرصة لتدريب النوتة الموسيقية، ولأول مرة يفرض على طفل تسمية شجرة باسمه ورعايتها. لاحظ النقابي صاحب الخبرة في الناس والأشياء أن بناءه ولأول مرة أصبحوا يتناقشون في العلم التجريبي وسلاح التكنولوجيا والنفط العربي وتجديد أصول الفقه والفارق بين السياب ونزار وأحمد مطر. لاحظ النقابي أن (الماسورة) التالفة منذ زمن توقف عنها الخرير اليومي، وأن شباك المطبخ قد ثُبِّت بعد إصلاحه، وتوقف الإزعاج، وأن لمبة جديدة قد أضاءت الحوش، وأن وأن وأن… إنتهت العطلة الصيفية وأقيمت ليلة كبرى وزع الناس فيها الهدايا والبطاقات والوشاحات على الأم المثالية والعامل المثالي والطالب المثالي وصاحب الحديقة المثالية، وأذكى كهربائي ونجار ومهندس إلكترونيات (كيري). ابتدرت الاحتفال ندى بت الباريا وهي خلطة خطيرة بين الشمال والجنوب بالآية البشارة (ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أأمةً ونجعلهم الوارثين). وغنت طفلاتنا عازة لخليل فرح وصه يا كنار للصاغ محمود أبوبكر، ومع إطلالة اليوم الجديد اختفى من الحارة أستاذ صلاح وأحمد وأستاذ عرفات وأستاذة هدى.. أين ذهبوا؟؟ لا يعلم أحد.. ولزمان طويل ظلت الحارة تذكر تلك الإجازة الرائعة، ويذكر النقابي العجوز وأسرته النفير الشامل الذي انتظم بيته وأولاده. فصاروا على عتبات الهندسة لهم باع وفي الثقافة والفنون. كان الأب يزهو بهم ويقول إنني سأخرج للسودان أبناءً يشرفونني ويشرفون الدنيا. كان يصمت في حزن ويسألني، ولكن من أين جاء هؤلاء الأربعة؟؟ وأين ذهبوا؟؟ ومن هم؟؟ قلتُ لعمنا محمد التمرجي (إنهم أبناء السودان جاءوا يعلمونكم أمور دينكم ودنياكم). إنهم أبناء منبر السودانيين الجديد المرفرف على ترف الحديث وعجز الرجال وإحاطة السادة، واستغلال الدِّين وديكتاتورية الطبقة والجماعة والفرد.. إنهم المتمردون لوجه الله، الخارجون على شره التملك وأكذوبة الإمكانيات.. إنهم الرافضون للتذمت، المتمسكون بالوسطية، إنهم الأفارقة العرب، والعرب الأفارقة، إنهم أهل البرنامج والسنة العملية، إنهم الذين مهدوا الطريق بالكفاح والتجرد والشهداء، وقالوا للعالمين في كبرياء (قل هذه سبيلي).