الطاهر ساتي

المحكمة المفقودة..!!


:: أحدهم تقدم بشكواه قبل أكثر من عام، وينتظر الرد.. والآخر تقدم بشكواه قبل تسعة أشهر، وينتظر الرد.. والثالث أيضاً؛ ثلاث رسائل، ذات تفاصيل محزنة، طرفها المجلس السلحفائي المسمى بالمجلس الطبي.. ولعلم أصحاب الرسائل، وكذلك القارئ، لا تنتظروا قراراً عادلاً من هذا المجلس؛ فالمجلس الطبي، منذ تأسيسه وإلى يومنا هذا، لم يُعَاقب طبيباً على (خطأ طبي)، غير أحد الأطباء بأمدرمان.. أوقفه عن العمل، ولكن بعد أن فصلت في قضيته إحدى المحاكم.. لو لم تحكم المحكمة في قضيته، لما تجرأ المجلس الطبي في إصدار قرار الإيقاف. زملاء المهنة يتسترون على أخطاء بعضهم إما بالتحري السلحفائي أو بشطب الشكوى وإسداء النصح، والمجلس الطبي نموذجاً..!!
:: قبل سنوات، عندما كان الدكتور الإمام الصديق أميناً عاماً للمجلس الطبي، طرح المجلس الطبي فكرة إنشاء محكمة طبية تنظر في قضايا الأخطاء الطبية والإدارية، بحيث يكون الحكم القضائي بديلاً لقرار المجلس المهني. ولكن، لم تجد الفكرة قبولاً في الوسط الطبي ولا نقاشاً في الوسط الإعلامي، ولذلك ماتت فكرة إنشاء المحكمة الطبية سريعاً.. أي قبل أن يتبين للرأي العام جدواها أوعدم الجدوى.. والفكرة يجب أن تعود اليوم إلى سطح الأحداث، وكان قد لَمَّح بها وزير الصحة بالخرطوم البروف مأمون حميدة على هامش مأساة الحاجة زينة عليها رحمة الله، ثم صمت..!!
:: وهكذا نحن في السودان، نتجاهل أمورنا لحين وقوع الكوارث ذات الصلة بالأمور، ثم نفكر في تلك الأمور المنسية على هوامش الكوارث.. فالتحسب بالوقاية هو الأفضل في إدارة الشأن العام، وشق مجاري السيول والأمطار قبل موسم الخريف خير من انتظار الخريف ثم ترك مهام شق المجاري للأمطار والسيول.. لو لم تمت الحاجة الزينة بعد مأساة بلغت حد التحول إلى قضية رأي عام، لما جادت عبقرية وزارة الصحة بالخرطوم – قبل أشهر – بفكرة إنشاء محكمة طبية.. وكالعادة، انتهت مراسم فكرة المحكمة الطبية بانتهاء قضية الحاجة زينة.. تم دفن الفكرة في (طي التناسي)..!!
:: المحكمة الطبية ليست بدعة سودانية، بل معمول بها في دول العالم، الأول منه والأوسط ثم الأخير المسمى – مجازاً – بالثالث؛ سبقتنا مصر بعقود في تأسيس المحكمة المختصة بالقضايا الطبية، وكذلك السعودية.. ومع ذلك، هنا من يرفض الفكرة بمظان أن التفكير في إنشاء محكمة طبية يعني إدانة مسبقة للطب والأطباء، أو هكذا تبرير.. هذا التبرير لا يقف على سيقان المنطق.. ولو تم التفكير في كل القضايا بهذا المنطق، لما كانت في بلادنا أية محكمة.. فالمحاكم – بكل أنواعها – لا تعني إدانة المجتمع، بل تعني وقايته – وإنصافه – من أخطاء المخطئين.. ومحاكم الضرائب والجمارك والصحافة والنفايات والاتصالات وغيرها، لا تعني أن بعض الشعب مدان حتى يثبت براءته بواسطة تلك المحاكم المختصة..!!
:: ثم، من العدل – للمواطن – أن تنظر في قضيته جهة عدلية بدلاً عن أن ينظر فيها مجلس يضج بزملاء الطرف الآخر في القضية.. ثم ليس من العدل أن يتلقى الطبيب عقابين في (قضية واحدة)، وهذا ما يحدث حالياً.. نعم عقاب المجلس الطبي، والذي دائماً يكون من شاكلة إسداء النصح و(الطبطبة)، لا يمنع أهل المريض من اللجوء إلى المحكمة أيضاً.. بل نصح المجلس بمثابة مستند اتهام.. وكذلك ترفع المحكمة الطبية الحرج عن أطباء المجلس الطبي.. أي خير لأطباء المجلس الطبي أن يبتعدوا عن مواجهة زملائهم وعقابهم ولو (بإسداء النصح).. فليكن المجلس المهني مهنياً مساهماً في تطوير المهنة.. أما النظر في قضايا الأخطاء الإدارية والطبية، فالمحكمة الطبية هي (الحل العادل)..!!