جعفر عباس

السلطة والتسلط

في إحدى دول شمال إفريقيا العربية، كانت وزيرة تتفقد موقعاً أثرياً يخضع لإعادة الترميم، وكان مدير الجهة المكلفة بالترميم، وهو خبير آثار معروف محليا ودوليا, يتولى الشرح للضيوف من كبار المسئولين الذين كانوا برفقة الوزيرة. وانتهى الشرح فاقتربت الوزيرة من المدير ذاك وصاحت فيه: أنت كذاب، ثم لكمت المدير على ظهره وكتفه وجذبته من قميصه فسقط أرضاً مغمى عليه، وتم نقله إلى قسم الطوارئ في مستشفى قريب، حيث اتضح ان الضرب الجسدي والإهانة اللفظية سببت للرجل ارتفاعا شديدا في ضغط الدم، وخللا في وظائف القلب.
المهم في الموضوع هو ان تلك المرأة وزيرة. حاول ان تخمن وزيرة ماذا؟ سأعطيك ثلاثة خيارات: 1) الرياضة. 2) الداخلية. 3) الدفاع! عفوا على الخدعة فهي لا تشغل أياً من تلك المناصب. طيب بإمكانك الاستعانة بصديق. أمري لله فصديقك أيضاً فشل في التخمين، هل تصدق أنها وزيرة الثقافة، والثقافة تعني فيما تعني التنوير وتبادل الرأي والحجة بسعة صدر.. (قرأت ملاحظة جميلة وذكية للمفكر السعودي عبدالله الغذامي: ليس عندنا ثقافة ولكن عندنا نشاط ثقافي).. ثم يقولون لنا ان النساء هن «الجنس اللطيف» مما يعني ضمناً الرجال هم الجنس المتوحش الجلف.. ولعل الرجال يدركون انه «انضحك» عليهم عندما نجحت النساء في تصوير أنفسهن كضحايا مجتمعات «ذكورية» ظالمة، ثم انتزعن في كثير من البلدان حقوقا تفوق حقوق الرجال، بما فيها التشييش العلني، وإذا ببعضهن يمارس كل أنواع البلطجة التي كانت موضع استهجانهن عندما تصدر عن الرجال.
وفي اعتقادي فإن العنف الذي أقدمت عليه تلك الوزيرة لا علاقة له بكونها امرأة، فالمرأة بصفة عامة غير ميالة للعنف الجسماني (ربما لأن أقوى عضلة في جسمها هي اللسان، وبالتالي فقد تمارس العنف اللفظي). الأمر يتعلق بالسلطة، وخمر السلطة، التي تسكِر شاربها فيقول: أنا كبير، وأستطيع أن أدوس على رقبة كل من لا يعجبني شكله أو فعاله أو كلامه.
كم منكم زامل شخصاً ما في مكان العمل وصادقه لسنوات ثم نال هذا الشخص درجة وظيفية عالية فتحول إلى وحش لا يعرف معنى للزمالة والصداقة، وما من شخص قضى خمس سنوات وأكثر في الحياة العملية إلا ورأى تلك العينة من البشر التي تستمتع بإهانة وإذلال الموظفين شاغلي الدرجات الدنيا أو الوسطى أمام زملائهم، والمصيبة الأكبر هي ان المركز الوظيفي عندنا يوفر حماية وحصانة للمستبدين حتى لو كانت هناك شكاوى جماعية واحتجاجات متكررة على تسلطهم وسوء إدارتهم لشئون ومصالح الناس.
وبالمناسبة فإن المدير أو رئيس العمل الظالم هو في حقيقة الأمر شخص جبان وضعيف ويعوض جبنه وضعفه بممارسة الظلم والغطرسة والتجريح والإهانة، بينما المدير المقتدر يفرض شخصيته دون الحاجة إلى العنطزة والفنطزة. وفي ذات مؤسسة صحفية كان مديرها من تلك النوعية التي تبحث على الدوام عن ثغرات تتيح له إذلال الموظفين، نشرت خبرا صحيحا من وكالة اسوشيتد برس، يتعلق ببلد عربي، فاحتج عليه سفير البلد العربي، متعللا بأن بقية الصحف لم تنشره ووجدها المدير فرصة لشرشحتي وبهدلتي وهو سعيد ومبتسم فقلت له: استدع السفير وسأعطيك نص الخبر كما أوردته الوكالة بالإنجليزية فإذا اتضح أنني ترجمته خطأ أو فبركته أعتبر نفسي مفصولا من العمل، وإذا ثبت أن الخبر صحيح تعتذر لي أنت والسفير.
ولم يقبل المدير التحدي وبعدها صار يعمل لي ألف حساب.. لا أقصد أن أثبت لك أنني شجاع ولكن أن أثبت لك أن كلمة الحق الشجاعة أمام مدير ظالم قد تخرسه.

jafabbas19@gmail.com