جعفر عباس

ردوا السلام ولا تجرحوا إحساسي

(العنوان أعلاه مطلع أغنية لمطربة مصرية اسمها عفاف راضي، كانت ذات صوت شجي، وتراها تغني على الشاشة فتحس بأنها محترمة، لأنها محتشمة ومتماسكة وتختار شعرا جميلا لتتغنى به ثم اختفت، لأن العملة الرديئة تطرد العملة الحسنة) .
المهم: لا أطيق الشخص العبوس المتجهم، أو الذي تلقى عليه التحية فلا يرد عليها، وإن فعل لم ينظر إليك، أو تخرج منه عبارة «عليكم السلام أو أهلا وسهلا» وكأنه يقول: الله لا يسلمك! فالتجهم في وجه الآخرين – وخاصة إذا لم تكن هناك ضغينة بينك وبينهم – دليل سوء الخلق (واختزان الضغينة أيضاً سوء خلق لأنها دليل على عقلية الثأر والانتقام)، ومن عادتي أن أحيي كل من أمر به، وأحرص على نحو خاص على تحية الذين يؤدون أعمالا بسيطة، بحيث يبدو الفقر والتعب على سيماهم، وإذا تجاهل أحدهم تحيتي، ألقيتها عليه مجددا بصوت مرتفع، وإذا كان مزاجي رائقا فإنني أنبهه بأنه مطالب بالرد على التحية، وأن ذلك لن يكلفه الكثير، وفي غالب الأحوال فإن مثل ذلك الشخص يحس بالحرج، ويهمهم معتذراً، غير أن هناك من يرد عليك بكل وقاحة وجلافة: ما ودي أسلم عليك.. كيفي! هذا ليس «كيفك» بل قلة تهذيبك، وسوء أدبك.
حدث أكثر من مرة أن دخلت مكاتب شخصيات كبيرة تربطني بها علاقات مودة، ولا بد طبعاً من المرور أولا بمدير المكتب أو السكرتير، وحدث في معظم الحالات أن تعرضت تحياتي لهؤلاء للتجاهل، فهم معتادون على استقبال (كبار الشخصيات)، فمن يكون هذا الأسود المبهدل؟ لعله أتى باحثاً عن وظيفة؟ مسكين يحسب أننا سنسمح له بمقابلة صاحب السعادة. وفي مثل هذه الحالات فإنني أعمد إلى العنطزة المستترة، وأقول كلاماً من شاكلة: قل لفلان إنني في انتظاره.. وفلان هكذا «حاف» هو «صاحب السعادة» ومجرد ذكري لاسمه من دون ألقاب يجعل السكرتير أو مدير المكتب في حيص بيص: هل هذا الشخص وثيق الصلة بصاحب السعادة بدرجة رفع التكليف معه، أم أنه شخص جلف؟ ويكون الرد على طلبي بسؤال حذر: هل عندك موعد مسبق للقائه؟ لا ما يحتاج موعد.. بس هو ينتظرني.
هنا يسألني عن اسمي ثم يقلب أوراق مفكرته وينظر إلي في شماتة المنتصر: سوري، اسمك غير مسجل في دفتر المواعيد، فابتسم بدوري ابتسامة المنتصر وأقول: تم ترتيب الموعد بيني وبينه خلال تناولنا العشاء سويا أمس. عليك فقط إبلاغه بأنني أنتظره هنا.. وأنني مو فاضي وما عندي وقت أنتظر. وبعد تردد (طويل عادة) يجري اتصالا بصاحب السعادة وقد يفاجأ بأنه خرج شخصياً للقائي ودعوتي للدخول في مكتبه.. وبعد انتهاء اللقاء أمُرُّ بالسكرتير أو مدير المكتب وأجده يهش لتحيتي واقفاً فلا أعيره نظرة.. ليس من باب إثبات أنني شخص مهم، ولكن لأنني لا أحترم من لا يحترمون الناس كافة بغض النظر عن مظاهرهم وألقابهم الاجتماعية.
وبالمقابل فإنني أتعاطف مع أولئك الذين تحتم عليهم طبيعة أعمالهم التعامل المباشر مع الجمهور وترغمهم اللوائح للعمل على الابتسام الدائم: المضيفون والمضيفات على متن الطائرات، من يتحصلون قيمة الفواتير ويتلقون الشكاوى في شركات الاتصالات،.. موظفو المبيعات وشركات الطيران، فما من وظيفة ترهق الأعصاب كتلك التي تتطلب التعامل المباشر مع الجمهور.. والجمهور فيه نسبة عالية من الأجلاف والمتغطرسين الذين يعتقدون أنه لا يليق بهم الوقوف في صفوف وأن على الموظفين الجالسين أمامهم ان «يضربوا لهم تعظيم سلام».. يقول البروفيسور ديتر زايف أستاذ علم النفس في جامعة فرانكفورت الألمانية أن من ترغمهم وظائفهم على الابتسام البلاستيكي عرضة لأمراض الاكتئاب أكثر من غيرهم من الموظفين… قلبي على مضيفات الطيران الحلوات المطالبات بالتبسم على الدوام وأتخيل الواحدة منهن وقد صار وجهها مثل وجه القذافي بعد إصابتها بالاكتئاب.

jafabbas19@gmail.com