فتنة الماء
قال مفسر الأحلام البارز (ابن سيرين)، إنه حُكي عن رجل أتى ابن عباس فقال: رأيت كأني أدليت دلواً في بئر وامتلأ ثلثا الدلو وبقى الثلث، فقال: غبت عن أهلك منذ ستة أشهر وامرأتك حامل وستلد لك غلاماً، فقال: وما الدليل؟ قال: لأني جعلت البئر امرأة والبشارة التي كانت في الجب كان يوسف عليه السلام، فعلمت أنه غلام، وأما ثلثا الدلو فستة أشهر والثلث الباقي ثلاثة، فقال: صدقت لقد ورد كتابها بأنها حامل منذ ستة أشهر.
ولأن الإسلاميين ضربوا رؤوسنا بمصطلح التأصيل، فإننا لجأنا إلى (ابن عباس) عطفاً على ابن سيرين، كي نجنب منابرهم بعض الاهتزازات المعرفية والفقهية، والثابت في المعاملات أنه لا ينبغي أن تأخذ مالاً من أحد وتعده بتقديم خدمة مقابلة، ثم تنكص و(تنوم بماله)، وهذا مما يصنف سرقة تستوجب المساءلة والمحاسبة، وربما الحد الشرعي.
سنوات مضت، أسوأها هذه التي نحن فيها، وهيئة المياه تستجبي المواطن الفقير (المسكين) جباية شهرية نظير إمداده بالماء ولا تفعل، ثم تلوذ بمبررات واهية وحجج ضعيفة. تملأ الهيئة جيبها الذي لا يشبع من أموال الناس بالباطل، ثم ما إن يدلون دلوهم في بئرها حتى يخرج إليهم فارغاً الجوف عديم النطفة، فيعيي ابني سيرين وعباس تفسيره، خاصة وأنه واقع لا حلم.
لكن أول أمس، جاءنا (كمال رزق) إمام مسجد الخرطوم العتيق باتفاق مبادئ رائع، وهذا ما يحمد لمنبره، أن ساقنا إلى الاتفاق معه هذه المرّة، حيث طالب ولاية الخرطوم برد الأموال التي (جبتها) من المواطنين مقابل مدهم بالماء ولم تف بوعدها وخانت عهدها وخرقت اتفاقها، وهذا مما يبطل العقود شرعاً وقانوناً وأخلاقاً.
بالطبع، فإنه الأمر يبدو صعباً من الناحية العملية، لكن هذا لا يعني أنه لا يمكن تسويته محاسبياً، هناك طرق عديدة، منها أن يتوقف المواطن عن دفع (الجباية) الشهرية، إلى أن يصله إمداد المياه، حينها تبدأ التسوية مع الهيئة، يذهب إليها وينظرا كم شهر انقطع عنه الماء، ثم تلتزم الهيئة بمده به حسب فترة الانقطاع (مدفوعة القيمة) دون أن تأخذ منه (فلساً) واحداً. هذه جانب من التسوية، أما الجانب الآخر، فيتمثل في عودة الهيئة إلى النظام القديم، الدفع الآجل.
ولأن (الجماعة) مغرمون بمفردة التأصيل، فما علينا إلا أن ننخرط معهم في تفاصليها لعلهم (يعقلون)، ونذكرهم بقوله تعالى “لأسقيناهم ماءً غدقاً لنفتنهم فيه”.
هذا ما يحدث الآن، بدليل من الكتاب، كما أن (دليل السنة) متوفر، يمكننا الأتيان به إن استدعت (تأصيلاتنا) القادمة، ما يحدث أن الخرطوم مدينة تجري من تحتها الأنهار والمياه الجوفية العذبة، حتى أنها لو أديرت على نحو معقول لن يبقى من عطشها ولا درنها شيئاً، فما المشكلة إذن؟ المشكلة الإدارة، والإدارة النزيهة المبدعة الكفوءة ابتعلها التمكين، لذلك أطيحوا بالتمكين كي تتقوا فتنة الماء.