تحقيقات وتقارير

أحمد هارون.. رجل ينظر تحت قدميه وأبعد

مصابيح مضيئة: الحشد من كل مكان

في ولاية متباعدة الأرجاء ولا تصل فيها خدمات الكهرباء لغالبية السكان، فإن هارون يمتلك مصابيح تنير له العتمة أولها قدرته على الحشد، وجلب الطاقات الأخرى للولاية فقد عمد هارون إلى عقد ملتقيات ندر أن تقام بشمال كردفان من قبيل ملتقى المعلومات وملتقى المسئولية الاجتماعية . وبالأمس فعلها عندما كان واليا على جنوب كردفان، بتنظيم كأس سيكافا وتشييد أكبر ملعب لكرة القدم في كادوقلي .

الجوكر: الكارزيمي مسوق الأفكار

تتسم شخصية هارون بالدينامية والتعامل مع الحدث بصورة لصيقة بجانب أنه قريب للمركز ويعد بمثابة ابنه المدلل ويمكن أن يستخدم تلك العلاقة في إحداث التغيير.

أحد مفاتيح كسب قلوب (الكردافة) هو الهبوط من علياء المنصب إلى شجرة البساطة، وليست لهارون مشكلة في ذلك، فالرجل يجيد تسويق الأفكار، ويملك حساً في اختيار الكلمات ذات الألق، فقد استطاع أن يلهم الكردافة بشعار نفير كردفان القريب من معاشهم بصياغة عبارة (موية.. طريق.. مستشفى والنهضة خيار الشعب)، وحدث الكردافة بأنكم شكرتم الرئيس و(الشكر جاب حقو) ببشريات وفتوحات تترى، وإن شمال كردفان (برنجي بلك).

مراكز القوى: أسلخ جلود سامري الانتهازيين

يُوصف هارون بأنه من أكثر السودانيين تحليقا في الأجواء في إشارة لاستخدامه المروحيات في تنقلاته الميدانية من لدن الشرطة الشعبية إلى ولاية جنوب كردفان، لكن على (مولانا الطائر) أن يهبط إلى واقع الولاية المأزوم، ويبدأ بتحطيم أسطورة (الانتهازيين) وهم المُراءون الذين يمشون بين الناس.

أولئك الانتهازيون ليست لهم مقدرات إدارية أو مركز ثقل وكل مقدراتهم استمدوها من الإدعاء بأنهم من الحزب الحاكم، يشبه أولئك الانتهازيين الأمراض الجلدية التي تستوطن بشرة البشر زمنا طويلا ويعجز الطبيب عن علاجها، ويجب على (ابن أم) الكردافة أن يفتك بسامري الخدمة المدنية. وأن ينزع (جلود) الوزارات من سُلطة أولئك “المرائين” حتى يصيحوا (لا مساس) وأن يعمد إلى تفكيك الأعشاش التي باضت وفرخّت الفشل وهم بطانة الانتهازيين الصغار، الموزعون في دواوين الحكومة بالأبيض.

محاذير: خذلان توقعات الناس

إذا كان هارون واجه فظاظة أهل المرتفعات والتي تعرف عنهم إجمالا فإن عليه أن يواجه مثلها في سهول شمال كردفان، فرعاة أكثر من ربع ماشية السودان، والبالغة (25) مليون رأس في شمال كردفان، يحتاجون إلى أن ينصت هارون إليهم وهم، الحفاة السائرون على أشواك الإهمال سنينا، وأن ينظر إلى مسألة الأرض والحيوان بمقاربة مستدامة وأن يضع حلولا طويلة لمجابهة تعرض مراعي كردفان للتقلص ووضع خطط لمواجهة أي تغيير في المراعي. على أن التحدي الأكبر سيكون كيفية تحويل قطعان الماشية إلى مورد اقتصادي حقيقي للولاية بعيدا عن النمط الحالي كجبايات ومظهر اجتماعي.

يمكن القول إنه على أحمد هارون أن ينتبه إلى حقيقة أن (نفير كردفان) يتطلب جهدا لتنزيله على أرض الواقع وأن تجاوب الناس مع النفير يعني أن طموحات الناس يجب أن تتحقق، ومع إعادة تقلده شمال كردفان فإن على “أحمد هارون” أن يعي خطورة خذلان توقعات الناس إذ ستتحول (المحبة) الشديدة إلى (كراهية) مقيتة في حال عجز هارون أن يحقق أبسط المقومات التي وعد بها (موية – طريق – مستشفى).

ينبغي لأحمد هارون أن ينظر إلى هشاشة بعض المناطق في شمال كردفان وإعطاءها نوعا من التمييز الإيجابي ويتبدى ذلك في محليات شمال الولاية في سودري وحمرة الوز وجبرة الشيخ ذات الهشاشة الكبيرة لتقلبات المناخ ويجب عليه أن يولي منطقة أم روابة خصوصية بجانب التنسيق مع سلطات ولاية النيل الأبيض بخصوص منطقة الباجا.

مطلوبات: اغتنام الفرص

في ولاية ذات اندماج قبلي عتيق منذ القدم فإن على هارون أن يبدأ إصلاح الأوضاع بمقاربة اقتصادية، فنصف مساحة شمال كردفان من المراعي الطبيعية وأربعة أخماس سكان الولاية يعملون بالرعي أو الزراعة وهو ما يتطلب من هارون أن يكون مدركا لحاجة السكان الأساسية والتي يأتي في مقدمتها قضية المياه، ويجب عليه إجراء معالجات قصيرة الأمد لحل تلك المشكلة لكن عليه أن ينظر عميقا داخل الأرض بحثا عن المياه وإجراء مسح جيولوجي شامل للمياه بكردفان.

وفي ولاية تقع في حزام جغرافي هش ومعرض لموجات قلة الأمطار أو الجفاف فإن على هارون أن يشرع في اغتنام أي قطرة ماء تنزل في سهول شمال كردفان والتي تصل مساحة الأرض فيها إلى 45 مليون فدان تصلح للزراعة والرعي وأن يتأكد أن تلك القطرات حفظت لاستخدامها في فصل الصيف وأن يعمل على استغلال تلك الأمطار في إنتاج السنبلات خضراء لاستخدامها في الأيام العجاف، وعليه لأجل ذلك أن يحدِّث ويسرِّع من طريقة تسويق محاصيل كردفان وأن يلتفت لمشروع خور أبو حبل باعتباره أحد مصادر الأمن الغذائي .

ويجب أن يحقق هارون أمنيات مدن أم روابة والأبيض بالحصول على الماء المستدام دون انقطاع وذلك عبر توصيل المياه من كوستي إلى الأبيض، وأنبوب المياه من كوستي للأبيض ليس لفائدة الأبيض فقط وإنما سيكون شريان حياة لعدد من المدن ومئات القرى على طول الأنبوب.

مصابيح مظلمة: توهان في رمال كردفان

الاستقبال الكبير الذي حظى به أحمد هارون عند تعيينه واليا على شمال كردفان، يكشف عن جانب مظلم عاشته الولاية في الفترة السابقة، فتعلق الناس بالأمنيات التي وعد بها هارون تكشف عن ضعف كبير في أداء حكومات ولاية شمال كردفان المتعاقبة في مجال الخدمات.

رداءة الخدمات نتجت عن الاختيار غير الموفق للوزراء والمعتمدين في شمال كردفان حيث إن معظمهم لا يعرفون تفاصيل وخفايا معضلات شمال كردفان وبالتالي أصبحوا بعيدين عن أشواق ومطالب مواطني الولاية، وهو ما ادى إلى تعطيل الكثير من المشاريع التنموية في هذه الولاية.

طبيعة شمال كردفان ذات التربة الرملية المتحركة والمعرضة للتفكك نتيجة الظروف المناخية والممارسات الزراعية تعني أن هارون سيرث مرارات الزمن الطويل في نقص التنمية بالولاية، وإن لم يسارع مولانا كما يحلو للبعض أن يسميه إلى معالجة تلك الظلال المقلقة فإن خطوات هارون في شمال كردفان ستمحى سيرته للأبد وربما يغرق هارون في بحار رمال شمال كردفان المتحركة.

“”””””””””””””””””””””
“”””””””””””””””””””””””

ديباجة

في يوليو من العام 1971 أوصى أحد معارف أسرة شيخ محمد هارون بإدخال الصغير أحمد ذو السبع سنوات إلى التعليم الرسمي، وقال قريب الأسرة لشيخ الخلوة محمد هارون إنه رأى في عيني الطفل بريقا يرنو للمستقبل. تلك كانت نقطة تحول بالنسبة للصغير أحمد، حيث أصبح بإمكانه الدراسة على مقعد وثير بخلاف افتراش الأرض لوقت طويل.

من الألواح إلى “خور طقّت”

انتقل أحمد هارون من دراسة القرآن في خلوة والده بحي الياس بمدينة الأبيض إلى مدرسة الأبيض الغربية، وهناك ابدى نبوغا في حفظ الأناشيد وعُرف عنه قراءة آيات القرآن بصوت رخيم والإجادة في كتابة موضوعات الإنشاء والتعبير، بعدها انتقل إلى الدراسة بالمدرسة الأهلية، فظهرت ملامح من شخصية أحمد الخطابية وعملت الجمعية الأدبية التي تُقام عصر كل إثنين في صقل موهبة أحمد الخطابية ومكنته من معرفة كيفية السيطرة على عقول الجمهور المستمع.

أما قدرته على الحفظ والاستذكار فدفعته إلى الالتحاق بمدرسة خور طقت الثانوية. وفي فترة ثلاث سنوات هي عمر المدرسة الثانوية ظهرت أولى ملامح شخصية أحمد هارون، وبرزت قدرته على التعامل مع الأحداث وامتلاك زمام المبادرة وهو ما مكنه من تولي رئاسة إدارة داخلية ود ضيف الله بخور طقت.

جفاف على أعتاب الجامعة

تزامنت نهاية دراسة أحمد هارون بالمرحلة الثانوية مع أكبر كارثة إنسانية ضربت الساحل الأفريقي وهو ما عرف بمجاعة 1983، ومع وصول أولى موجات النازحين من ربوع كردفان إلى مدينة الأبيض غادر أحمد هارون إلى جمهورية مصر لدراسة الحقوق في جامعة القاهرة.

صور النسوة النازحات في شوارع الأبيض وهن يتسولن المارة أعطوهن أو منعوهن رسخت في ذهنية أحمد في قاهرة المعز، وبدا أن الشاب المراهق كان يلوم نظام جعفر النميري، على حدوث الكارثة ومحاولة إخفائها وتبريرها بأنها من غضب الطبيعة.

تغيّرت حياة هارون في أرض الكنانة عندما أفلح طلاب ينتمون إلى الجبهة الإسلامية القومية من تجنيده إلى تنظيمهم في كلية الحقوق بجامعة القاهرة، وهناك برز كأحد الكوادر الخطابية والقيادات الطلابية مما أهله سريعا لتولي رئاسة اتحاد الطلاب السودانيين بالقاهرة في عام 1987.

بعد تخرجه عاد أحمد هارون إلى السودان ليعمل في المحاماة والقضاء في مدينة صباه الأبيض، لمدة خمس سنوات انتهت في العام 1994، ليغادر مهنته ويلج إلى عالم السياسة، وتبعا لذلك تم تعيينه مديرا لإدارة السلام والتنمية بولاية جنوب كردفان، في الفترة من 1994 إلى 1997 ومنها وزيرا للشؤون الاجتماعية في نفس الولاية لمدة عامين.

الناجي.. تنظيم الاحتياطي المركزي.

وقبل نهاية الألفية الجديدة بعام حدثت انتقالة أحمد هارون الكبيرة من إدارة السلام بولاية جنوب كردفان إلى (صولات المعارك) بالبلاد قاطبة حيث عُيِّن منسقا عاما للشرطة الشعبية من 1999 إلى 2003م، فاستفاد أحمد من ملكاته الخطابية في تحقيق تقدم في منصبه الجديد حيث عمل على إضافة طاقات إلى جسد الشرطة الشعبية.

وفي فترة إدارته للشرطة الشعبية واجه أحمد هارون الموت مرارا لعل أكثرها علوقا في نفسه، نجاته من حادثة تحطم طائرة عداريل والتي تقل وزير الدولة بوزارة الدفاع إبراهيم شمس الدين وثلة من العسكريين بالجنوب في 2002م.

بلاء أحمد هارون في تنظيم الشرطة الشعبية جعله يترقى في أوساط المؤتمر الوطني، فعهد إليه بحقيبة وزير الدولة بالداخلية في الفترة من 2003 إلى 2005م، وهي نفس الفترة التي التهبت فيها الحرب في دارفور، وفي تلك الفترة استطاع هارون إعادة تأهيل قوات الاحتياطي المركزي. ودارفور حولت هارون من قاضٍ إلى مدعى عليه من قبل المحكمة الجنائية الدولية.

المهمة المستحيلة: داخل (جنوب كردفان)

وفي حقبة ما بعد اتفاقية السلام الشامل عين وزيرا للدولة بوزارة الشؤون الإنسانية في الفترة من 2005 إلى 2008 لينتقل لإدارة أخطر ملفات ما بعد الحرب والسلام وتعيينه والياً على جنوب كردفان في عام 2008. وهناك استطاع أحمد هارون أن يدير مع شريك السلام عبد العزيز الحلو الولاية المثقلة بتركة الحرب بعد نيفاشا.

ومع انتهاء آجال نيفاشا فإن هارون والحلو واجها حصاد شرور الاتفاقية المستترة من 2005 إلى 2011م، وفتحت نتيجة استفتاء جنوب السودان صندوق (بندورا) المفعم بسوء النية بين المؤتمر الوطني والحركة الشعبية فكانت (الكتمة) التي انهت مسيرة السلام القصيرة بـ(جنوب كردفان) لتحوله إلى (جنون كردفان).

واجه هارون واقعا جديدا في جنوب كردفان ليجد نفسه مرة أخرى ينتقل من ساحات السلام إلى صولات المعارك وكأن قدر هارون أن تتعذب نفسه جيئة وذهابا فيبدو أحيانا صانع سلام وتارة أخرى أميرا للحرب.

سفح الأرض المعشوشبة

وبالرغم من امتلاك هارون كاريزما جعلته المفضل للمركز في إدارة جنوب كردفان إلا أن الضغوطات القبلية قلصت من قدرة هارون على المناورة السياسية وهو ما ادى إلى عودة ولاية غرب كردفان من رحم جنوب كردفان والتي دمجت من قبل مهرا لسلام نيفاشا، وسرعان ما ضاقت جنوب كردفان بأحمد هارون نتيجة تنامي العصبية والقبلية باعتبار أن هارون من غير أهل الولاية وتصادفت تلك النزعة مع مطالبة أهالي شمال كردفان بعودة ابنها إلى سهول الشمال المعشوشبة.

في 2013 عاد أحمد هارون إلى شمال كردفان واليا وهناك نفث سحره السياسي والتنفيذي: كلمات وعبارات لإلهاب حماس الناس فشرع في بناء سفينة (نهضة كردفان) ووضع مشروعات النفير والتي لخصها في (موية – طريق – مستشفى) ومع إعادة تعيين أحمد هارون من جديد واليا لشمال كردفان فإن أحمد هارون يجد نفسه في محك حقيقي في تحقيق النهضة التي بشر بها طيلة فترته الأولى.

التيار