جعفر عباس

حاولت المرآة إحباطي وفشلت


أكتب هذه السطور خلال الساعات الأولى من اليوم الأول من يونيو/ حزيران، وكان عام 2015، وأنا جالس في كرسي مريح وحولي مكيف الهواء يهفهف، ولأن هذا اليوم هو الثالث من أيام شهر رمضان المبارك، فإنني من باب نفي أحاسيس الجوع (بحمد الله رغم الحر الشديد في منطقة الخليج فإن العطش ليس مشكلة لمعظم الصائمين فيه، بسبب وجود مكيفات هواء في كل مبنى يعلوه سقف)، المهم من باب تجاهل عويل المصارين، قضيت وقتا طويلا قبل الشروع في الكتابة في التفكير في حالنا اليوم وحالنا خلال السنوات العشرين الماضية.
ولم أكن بحاجة الى تشغيل كل فصوص دماغي (أصلا أجزاء منها تقاعدت)، لاستنتاج أن كل شيء تقريبا في عالمنا راكد، والركود لا يعني فقط عدم الحركة بل يعني أيضاً التحلل وتوالد الجراثيم والبكتيريا، والإنسان الفرد إذا صار (راكدا) أي قليل أو عديم الحركة، يصاب بتيبس المفاصل وربما تصلب الشرايين والجلطات. يعني يصاب بإعاقة من نوع أو آخر.
وتخيل حال مجتمعات بأكملها تعاني الركود الثقافي والعلمي والاجتماعي والسياسي!
وما يثير دهشتي واستنكاري هو أننا شديدو الاحتفاء برؤوس السنوات التي نسميها ميلادية (بصراحة ملّيت تذكيركم بأن التسمية تلك خطأ فالمسيح عليه السلام لم يولد قبل ألفين وبضع سنوات بل لا تتفق الأناجيل على تاريخ معين لمولده، والتقويم الذي نسميه «ميلادي» تسميته الصحيحة «غريغوري» وكان من قبل اسمه جولياني نسبة إلى جولياس سيزر/ يوليوس قيصر).
والأول من يناير لا يأتي بأي لمسات سحرية تؤدي إلى تبدل الحال إلى أفضل، وياما عشنا وشفنا عشرات (الأوائل من يناير) ولم تكن تختلف عن الأول من تموز أو سبتمبر أو صفر، وعلى المستوى الشخصي فإن مطالع الأعوام الجديدة تذكرني فقط بأن الله مد في أيامي سنة، وأن تلك السنة شطبت من عمري. وأنظر في المرآة وأرى فيها شخصاً لا أكاد أعرفه: من أنت أيها البائس؟ ما ذلك الكيس المجعد الذي يبدو أسفل عينك؟ هل هذا جعفر عباس أم أرئيل شارون والعياذ بالله؟ أحاول أن أتجاهل الشخص الذي يقف قبالتي في المرآة رغم أنني ألاحظ انه به شبه للشخص الذي كنته قبل عشرين أو خمس وعشرين سنة.
قبل أيام عثرت على صورة لي وأنا طالب في المرحلة الثانوية (وهذا يخرس الألسن الحاقدة التي تزعم أنني أكملت تعليمي قبل اختراع الكاميرا)، وحسبت في بادئ الأمر أنها لشخص من ضحايا المجاعة في الصومال، ورأيت عدة صور لي في الصحف الخليجية في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي وقلت: الدوام لله.. ثم عدت إلى المرآة وقلت لنفسي معزياً: ولا يهمك أبو الجعافر فأنت صبوح أكثر من صباح، رغم أنك لم تخضع لجراحة تجميل ولم تصبغ شعر رأسك قط ولم تستخدم أي كريم أو دهان أو بدرة تخفي ما فعلته السنون بشكلك! عندما كنا صغارا في أقصى شمال السودان كانت أيدينا وأرجلنا تتشقق بسبب استخدام الماء عند الوضوء، وفي كل ليلة كانت أمهاتنا يمسحن جلودنا بمنتجات مرطبة للبشرة يأتين بها من المطبخ. نعم زيت الطعام العادي كان هو الكريم الذي نكافح به تشقق وجفاف البشرة.
ومع إطلالة كل عام جديد أتذكر بعض أهلي, أختي أنجبت بنتها البكر في يناير من عام كذا، وتعلقت بنتها بي وصرت لها أما وأبا، وأحيانا كنت أضطر إلى التغيب عن العمل لأنها بكت بحرقة عندما أردت مغادرة البيت.. تلك البنت هي اليوم أمّ لطفلين وهما أيضاً شديدا التعلق بي، رغم أن أمهما لا تزال تطلب مني أن أدللها كطفلة.. وأنظر في المرآة مجددا وأقول: الحمد لله، هذا الشخص البائس الذي يقف أمامي هو جعفر.. أنا.. وقد أكرمني الله وعشت كل هذه السنوات، ولو كان ثمن ذلك بعض التجاعيد، فأهلا بالتجاعيد والأخاديد.

jafabbas19@gmail.com