د.عبد الوهاب الأفندي

السيناريو التونسي في تركيا؟


(1)
لنفترض جدلاً صحة ما ذهب إليه بعض متطرفي أكراد تركيا من أن حكومة أردوغان هي التي تواطأت وحرضت داعش على قتل مواطنيها، الذين تسمح لهم في نفس الوقت بكامل الحرية لشتمها وإهانتها والترشح ضدها، بل وكذلك لحمل السلاح وتكوين الجيوش وشن الحروب في الدول المجاورة. فلماذا إذن تعجز حكومة نجحت في رعاية تنظيم يعاديه كل العالم في إغلاق حدودها في وجه الإرهابيين الحقيقيين الذين يغدون ويروحون بين الحدود التركية والسورية، ويتباهون بحمل السلاح داخل تركيا، بل وبقتل الجنود والمواطنين الأتراك؟ وكيف تعجز حكومة تمتلك أقوى جيش في المنطقة بتسوية الأرض بعين العرب ومن فيها خلال دقائق إذا أرادت، أسوة بما يفعل حبيبهم الأسد بشعبه؟

(2)
غريب حقاً أمر هذه الجماعات. يتهمون الحكومة الوحيدة الديمقراطية في المنطقة، وأول حكومة تركية تحاورهم وتسمح لهم بالوجود السياسي العلني بالدكتاتورية، وفي نفس الوقت تشيد بـ «ديمقراطية» بشار الأسد الذي لا يسمح لشعبه بمجرد التنفس، بل وتعاونه في قتل وتشريد شعبه!! كثير من هؤلاء عبروا عن الشماتة في أردوغان وحزبه لأنه حصل على أقل من نصف الأصوات في انتخابات حرة، ويصفقون للأسد والسيسي لحصولهما على قرابة 100٪ من «الأصوات» في لا-انتخابات. ثم يتصايحون بأن أردوغان دكتاتور!!!

(3)
هذا زمانك يا عجائب فعلاً. «المعارضون» اليساريون والقومجيون في مصر غير المحروسة كانوا كالحملان الوديعة في أيام مبارك وبن علي، بل وكان أكثرهم يجلس بأدب تحت أقدام الدكتاتور، ويقدم كل الخدمات المطلوبة وأكثر. ثم تحول كل من هؤلاء بقدرة قادر في أيام مرسي والمرزوقي والجبالي إلى أسد هصور، «يعارض» ويتظاهر ويشتم ويهدد و»يتمرد». ثم إذا جاء الليل مرة أخرى وصعد الدكتاتور المتجهم إلى سدة السلطة، قالوا له «يا سيدي»، وأصبحوا يتجملون ببطولاتهم ضد دكتاتورية مرسي والجبالي! الآن هم جرذان صغيرة لا دور لها ولا معنى لوجودها أصلاً. وهم بذلك فرحون سعيدون، يعدون عودتهم إلى الذل والعبودية نصراً، واغتيال الدكتاتورية ومعها إنسانيتهم فتحاً مبيناً!!

(4)
بدأت بالفعل أعيد النظر في نقدنا المستمر لمقولات المستشرقين بأن العرب وأمم الشرق الأوسط شعوب لا تصلح للديمقراطية ولا تصلح لها، وأننا بالحق شعوب تفرح بالعبودية وتستحقها. كيف بغير ذلك نفسر استراتيجية أعداء الديمقراطية في أرجاء ديار الإسلام في تأزيم الديمقراطية ثم تصوير أنفسهم كضحايا ووضع اللوم على خصومهم المسالمين كما فعلوا ذلك في مصر، حين قام بلطجيتهم بالتهجم على مقار تنظيم الإخوان وحزب الحرية والعدالة، بل وحتى القصر الرئاسي ثم لوم المحاصرين في تلك المقار حين دافعوا عن أنفسهم، ثم برروا بذلك بانقلاب بحجة وقف الحرب الأهلية التي كانوا هم من أشعلها.

(5)

تكرر السيناريو في ليبيا وتونس واليمن بتنويعات على نفس المقطوعة في انتهازية إجرامية تطابقت فيها الأجندات بين المتضررين من الديمقراطية والمرفوضين شعبياً من كل طيف ولون. وهكذا توافق السلفيون والشيوعيون، والقوميون والليبراليون، واليسار واليمين، على وأد الديمقراطية وذبحها. واحتضن أنصار الخرافات والتطرف أدعياء الحداثة واليسارية، والكل مع الدكتاتور المخلوع ومن ينتظر.

(6)

ليس غرضنا هنا تبرئة أنصار الديمقراطية وممارسيها من كل عيب، فقد أفضنا في انتقاداتنا للإخوان وغيرهم. ولكن الذي يميز التيارات المناصرة للديمقراطية هو قبولها بالآخر. فلم تكن لدى مرسي سجون يملأها بخصومه، حتى لو شاء، وهو لم يشأ. وأنصار الديمقراطية في اليمن وسوريا وكل موقع آخر، كانوا على أتم استعداد لاحتضان جميع فئات الشعب والتعاون معها. أما الآخرون، فإنهم يريدون غيرهم (بل وأنفسهم) إما عبيداً أو في المقابر والمنافي والسجون.

(7)

نشهد في تركيا ركوب نفس الموجة، وبمبررات أسخف. حينما هاجمت داعش عين العرب، حيث هدد كبير إرهابييهم من سجنه بأنه لو سقطت عين العرب فإن عملية السلام في تركيا ستسقط. وهذا أعجب العجب، لأنه تعبير عجزعن مواجهة داعش، واستعطاف للحكومة التركية لمقاتلتها نيابة عنهم، وتهديد بشن الحرب على تركيا من عاجز عن مقاتلة عصابة من المارقين!! وهم الآن يتهمون تركيا بانها قصرت في حمايتهم، ثم يقتلون رجال الشرطة التركية الموكلين بأمنها وأمنهم!! سلمت العقول.

(8)

علقت في أيام معركة عين العرب على اتهامات إعلامية غربية لتركيا بالتخاذل في الدفاع عن تلك المدينة بأن بريطانيا وبرلمانها رفضا مجرد «التورط» في قصف داعش في سوريا من قواعد تبعد آلاف الأميال عن المنطقة. ومع ذلك يريدون من تركيا التي تجري المعارك عند حدودها، أن تورط كل جيشها في المعركة!!

(9)

ما أكثر أخطاء الحكومة التركية، ولكن تركيا ما تزال ديمقراطية، بل أكثر. سمعت أحد أنصار هذه الحركات يقول إن الحكومة يجب ألا «تنتقم» لقتل جنودها من حركته، لأن مهمة الحكومة ليست الانتقام، بل الإصلاح!!! أمريكا وبريطانيا ترسلان الأساطيل والطائرات بطيارين وبدونهم وتجيشان الجيوش لغزو البلدان وقضف المشرق والمغرب حين يشاك مواطن بشوكة. أما تركيا «الدكتاتورية»، فيجب أن تكون كالحمل الوديع، تقدم العلاج النفسي والرعاية الصحية لإرهابييها المساكين، لأنه يا حسرة، لم يفعلوا سوى الانتقام منها لأنها «إرهابية»!

(10)

ما يحدث في تركيا وغيرها هو صراع بين طرفين لا ثالث لهما: أنصار الديمقراطية والحرية من جهة، وأنصار العبودية والقمع من جهة أخرى. هناك مآخذ على المعارضة السورية وحزب العدالة والتنمية وحركة النهضة وحلفائها في تونس، وحركة الإخوان ومؤيديها في مصر، والتحالفات المؤيدة للديمقراطية في اليمن وليبيا وغيرهما. ولكن ما يجمع هذه القوى هو أنها لا تمارس قمع معارضيها وقتل شعبها، وتحمي حرية خصومها. حينما كان مرسي أو هادي أو الجبالي يحكمون، كانت السجون فارغة، والإعلام حراً والمعارضة مزدهرة والبلاد في رخاء. وكذلك الحال في تركيا اليوم، بزيادة في ازدهار اقتصادي وحريات بلا حدود. فهل المستقبل هو لمن يبني ويحمي التنوع، أم لمن يدمر البلاد ويعمر السجون؟ هل الانتصار للمقابر أم للمنابر؟

٭ كاتب وباحث سوداني مقيم في لندن