زعيم الصحفيين في السياق الحكومي
حالة إحباط مزمنة انتابت مئات الصحفيين السودانيين الأسبوع الماضي، وهم يستغربون حالة التماهي والتمازج العاطفي، بين رئيس الاتحاد الدولي للصحفيين جيم بوملحة وبين حكومة السودان.. الرجل حل ضيفاً مبجلاً في الخرطوم للمشاركة في أعمال القمة الإقليمية لاتحادات الصحفيين بدول وسط وشرق إفريقيا. فبينما تعيش الصحافة والصحفيين في السودان أسوأ فترة على مر تاريخها منذ أن صدرت أول صحيفة سودانية في العام 1919م، لم يفتح الله على رئيس الاتحاد الدولي للصحفيين بكلمة حق أو حتى عتاب مغلف يعرب فيها عن أسفه لما يجري للصحفيين السودانيين من بطش وتنكيل بل اكتفى الرجل بالصمت والتغاضي عن كل الانتهاكات التي سارت بها الرياح. وحظي الرجل بجانب الاستضافة الفخيمة بلقاء الرئيس عمر البشير بالقصر الجمهوري وقيل إنه تم بحث وضع الصحافة والحريات الصحفية في السودان. وعقب اللقاء أعرب حامي حمى الصحافة على النطاق الدولي عن سعادته بلقاء الرئيس السوداني، وقال إنه استمع لشرح من الرئيس حول “ما يجب أن تكون عليه الصحافة”.
ألم يعلم بوملحة أن جهاز الأمن السوداني التابع مباشرة لرئيس الجمهورية صادر قبل أشهر قليلة (14) صحيفة دفعة واحدة من المطابع مباشرة وهي تمثل (80%) من مُجمل الصحف اليومية، ولم يجد وزير الإعلام السوداني حينها بُدّاً من تبرير خطوة جهاز الأمن المتعسفة؛ وقال رافضاً تقديم استقالته إن الصحافة لا تقع تحت مسؤوليته، مضيفاً أن جهاز الأمن من حقه اتخاذ أية خطوة إذا رأى أنها تهدد الأمن القومي والاقتصادي والسياسي والاجتماعي أو ما يثير البلبلة.
ألم يعلم بوملحة أن رئيسة لجنة الإعلام بالبرلمان ذهبت بعيداً وقالت عجباً تعليقاً على المصادرة بالجملة، حيث طالبت بإرجاع الرقابة على الصحف وعودة مقصّ الرقيب من جديد لتفادي المصادرة الجماعية. وقالت: “لا نستطيع أن نفعل شيئاً مع المساحات الواسعة الممنوحة للأمن لأن التعديلات الدستورية الأخيرة أعطت الجهاز مساحة أوسع”.
ألم يعلم بوملحة أن مجلس الصحافة والمطبوعات اكتفى بالتعبير عن أسفه لمصادرة الصحف، وقال في بيان صحفي إنه كان بالإمكان محاسبة المخطئين بمنهج يتناسب مع قانون الصحافة والمطبوعات لسنة 2009. وأوضح البيان: “القانون الخاص يقيد العام، فقد كان من المرتجى أن يكون المجلس هو الجهة التي تحاسِب الصحف إذا وقعت في أخطاء مخالفة للقانون”.
هل اقتنع بوملحة برأي الرئيس البشير حول “ما يجب أن تكون عليه الصحافة” كما صرح بذلك عقب لقائه بالبشير بالقصر الجمهوري؟!. نعم يبدو الأمر كذلك.. لقد أضحت القناعة يا زعيم صحفيي العالم متجذرة لدى الصحفيين في السودان، بأن الهجمة الحكومية الشرسة على الصحافة وملاحقة الصحفيين تأتي في إطار سياسة حكومية، ترمي إلى تكميم الأفواه وكسر شوكة الصحفيين، وإجبارهم على تبني سياسة الحكومة وتجنب فتح ملفات الفساد المستشري. وإلا فإن سيف المصادرة والبلاغات والاستدعاءات سيبقى مسلطا.. وستطول فترات المحاكمات والبلاغات لأعوام يعيش خلالها الصحفي توترا مهنيا ونفسيا، وتتكبد الصحف خسائر مالية كبيرة.
اليوم يواجه الصحفيون باستمرار بلاغات كيديَّة من نافذين، الأمر الذي يشكل استغلالا للسلطة والنفوذ، ومحاولة لإرهاب الصحافة، وتخويفها بسيف المقُاضاة، لتتراجع عن نقد الفساد المالي والإداري. وتبقى ذريعة تهديد “الأمن الوطني” والحفاظ على “هيبة الدولة” كذريعة لتخويف الصحفيين وهم يقومون بكشف تجاوزات الحكومة للرأي العام، مما مكنها من اتخاذ أداة أكثر فعالية في قمع الصحافة بتوجيه التهم المجانية من شاكلة الخيانة والتخريب والتجسس.
الحقيقية المرة أن توزيع الصحف السياسية، البالغة نحو (20) صحيفة، انخفض لأكثر من (50%) في العام 2013 مقارنة بتوزيعها العام 2012، بينما توقفت (12) صحيفة عن الصدور خلال العام المنصرم 2014. وصنفت منظمة “مراسلون بلا حدود” السودان ضمن تصنيفها العالمي لحريات الصحافة ووضعتها في المرتبة (172) من بين (180) دولة.
لقد منحت صك براءة للحكومة السودانية ونحن نعلم أن الاتحاد الدولي للصحفيين، اتحاد نقابي عالمي لنقابات الصحفيين ويهدف إلى حماية وتعزيز حقوق الصحفيين وحرياتهم، ويسعى إلى التضامن والعدالة الاجتماعية وحقوق العمال والعولمة والديمقراطية وحقوق الإنسان، ومحاربة الفقر والفساد.
حقا فإن الحسرة تملأ القلوب عندما نتذكر أن الاتحاد الدولي للصحفيين تأسس لأول في سنة 1926 في باريس، ويمثل الاتحاد أكثر من 600 ألف صحفي في أكثر من مئة بلد.
لقد ذهب بوملحة إلى العراق بعد زيارته للسودان معلناً أن الاتحاد الدولي والصحفيين في كل أنحاء العالم يقفون جنبا إلى جنب مع الصحافة العراقية ومساندة العراق في حربه ضد (داعش)، بينما وقف بعيد ذلك بجانب الحرب الداعشية التي تشنها حكومة الخرطوم ضد الصحافة السودانية المنكوبة.