في تخوم دارفور (2)
“زالنجي” تمثل مدينة لها أهميتها في حالتي الحرب والسلام بدارفور، أغلب قادة التمرد والسلطة من هذه المنطقة، من “أحمد إبراهيم دريج” و”التجاني سيسي” و”أحمد عبد الشافع” “عبد الواحد محمد نور”، وقادة المليشيات المسلحة من الفور أمثال “طراده” و”كاربينو” وغيرهم من المتمردين. وقد شهدت المنطقة أحداثاً مأساوية مثل حادثة اغتيال وتصفية مواطنين في قرية “دليج”، وأعنف المعارك والصراعات دارت في منطقة “زالنجي” ووادي صالح وجبل مرة الذي يتوق التمرد لجعله قاعدته الرئيسية، وذلك الماضي القريب المترع بالدماء والدموع والأحزان أخذ في التلاشي، وبدأت الآن شواهد تعافي المنطقة من أمراض الأمس. هبطت بنا طائرة (الانتنوف) الروسية في مدرج مطار “زالنجي” الترابي، وقد تبدت عروس مدن دارفور ناعسة الأجفان تجوب طرقاتها سيارات (اليونميد) على جنود أفارقة عجزوا تماماً في التعاون مع الأهالي، وشكلت اللغة حائط صد حال دون تنامي العلاقات الإنسانية. اتجه ركب الدكتور “التجاني سيسي” إلى تفقد العمل في مطار “زالنجي” الجديد والذي يقع بعيداً عن المدينة بنحو عشرين كيلو متراً، وتقوم وحدات من سلاح المهندسين التابع للقوات المسلحة بتشييد المطار والذي أنفقت عليه السلطة الإقليمية لدارفور أكثر من مائة مليون دولار لتوسعة وزيادة المدرج. وفي داخل المدينة تغيرت بعض الملامح أكثر من خمسة وعشرين كيلومتراً من الأسفلت الأسود تمدد في جسد “زالنجي”، وأخذت الركشات الهندية تتقافز في طرقات المدينة مثل الفراشات بين الأزهار والطرق الترابية التي كانت تخنق المدينة بالغبار وتلوث المناخ. قد أصبحت شيئاً من الماضي وأهم من ذلك أن حاكم دارفور الوسطى الشرتاي “جعفر عبد الحكم”، قد نجح في إعادة لحمة المجتمع القديم. خفت الصراعات القبلية وانكسرت شوكة التمرد ولكنه سكن قلب المعسكرات التي استعصى استقطابها أو التفاهم معها إلا أن مدينة “زالنجي” يطحنها الغلاء الفاحش والارتفاع الجنوني في أسعار البضائع الواردة من شمال ووسط البلاد، وتدنٍ مريع في أسعار المنتجات المحلية. وتبدو الحياة عصية على الإنسان العادي محدود الدخل، ويبلغ سعر رطل السكر في “زالنجي” سبعة جنيهات وقطعة الخبز الواحدة بجنيه وجالون البنزين بمبلغ أربعين جنيهاً وجالون الجازولين بمبلغ ثلاثين جنيهاً، ولا تسل عن سعر الصحيفة التي تأتي من “الجنينة” وتباع للقارئ بمبلغ سبعة جنيهات ولكن دستة برتقال جبل مرة سعرها عشرة جنيهات، وتفاح الجبل خمسة عشر جنيهاً وكيلو لحمة الضأن بخمسة وعشرين جنيهاً. وقد دخلت خدمة الانترنيت في العام الماضي ولكن المدينة يلفها الظلام ليلاً بسبب نقص الوقود، حيث تتوقف الحياة بعد العاشرة ليلاً في الوقت الذي تغوص المنطقة عميقاً في دنيا السياسة، معسكرات نازحين يسيطر عليها “عبد الواحد” ببث الأكاذيب في أوساط العامة من البسطاء الذين صدقوا الحديث السياسي عن التعويضات الفردية للنازحين، إن هم تمسكوا بالبقاء في المعسكرات ورفضوا الحلول التي تأتي من الحكومة.