جعفر عباس

الست المتخوجنة والفردة السودانية


قضت محكمة مصرية بالتفريق بين زوجين حسب رغبة الزوجة، وقد سعدت بهذا القرار، تعاطفا مع الزوج الذي يعمل طبيباً. الزوجة مترجمة في شركة خاصة ونالت البكالوريوس من الجامعة الأمريكية، وطلبت الطلاق لأن زوجها «متخلف» ويصر على التحدث معها باللغة العربية في البيت: تصور يا حضرة القاضي أنا أكلمه بالإنجليزي يقوم يرد عليّ بالعربي.. أففففف، إمبوسيبل. قال لها القاضي: طب مالو يا بنت الناس ما أهه إنتي بتتكلمي عربي تمام التمام، ليه ما تكلميه بالعربي وتريحي نفسك؟ ردت عليه: إكسكيوز مي سير.. أي دونت لايك تو سبيك إن أرابيك! ضحك القاضي: ما كنا كويسين ليه قلبتيها رطانة انجليزية.. معليش طالما انت في المحكمة لازم تتكلمي عربي.. وفشل القاضي في إقناع المدام بأن الكلام باللغة العربية في البيت بين زوجين عربيين لا يسبب العجز الجنسي أو العقم أو تدهور الصحة العامة. وقضى لها بالطلاق.
وفي تقديري فإن قرار القاضي عادل وحكيم، لماذا؟ سؤال ساذج ويدل على ضعف في الحس الإنساني والاجتماعية، بس سأجيب عليه: الزوج طبيب محترم وحسب إفادة الزوجة فإنه يجيد الانجليزية لأنه درس الطب بالإنجليزية، ولكنه كان يتصرف في البيت كشخص طبيعي ويتكلم بالعربية لأنها لسانه الأم، والإنسان يعبر عن نفسه بارتياح بلغته الأصلية مهما كانت درجة إجادته للغة أجنبية.
أنا مثلا لغتي الأم هي النوبية واتحدث العربية بطلاقة وظلت اللغة الانجليزية أداتي لأكل العيش وكسب الرزق منذ ان غادرت مقاعد الدراسة، ولكن وفي لحظات الزنقة والغضب والضعف العاطفي أجد نفسي أتكلم فقط بالنوبية. وإذا نرفزني سائق سيارة فإن الشتيمة التي تصدر عن فمي هي «كج نندي» وتعني الحمار الذكر (في الثقافة النوبية يعتبر الحمار الذكر أكثر غباء من الأنثى/ الاتان). وإذا أردت ان أدعو الله لي أو لغيري هتفت: وو نور كمبو كقر (يا الله يا قوي يا جبار)، وإذا سمعت ان شخصا ما في ورطة أوقع فيها نفسه بسوء تصرفه قلت له: اُرمود إكا جابو… والأرمود هو الرماد.. والعبارة تعني «سينهال عليك الرماد» وكان أهلنا في ما مضى يهيلون الرماد على رؤوسهم تعبيرا عن الحزن الشديد لموت عزيز، وإلى يومنا هذا فإن تأثير هذا الطقس النوبي واضح حتى في عامية السودان «العربي» فالرماد في عموم بلاد السودان يرمز للمصائب وإذا صاحت امرأة سودانية «رمادي» فلا تطلب لها سيارة الإطفاء بل حاول مواساتها.
أعتقد أن القاضي الذي حكم بطلاق الست الأمريكانية رأفة بالزوج، لأن جوهر الدعوى «هايف». ويا ما هناك زيجات ناجحة بين رجال ونساء يتكلمون لغات مختلفة تماما بل قد يكون بعض أطرافها صما بكما، وتأتي الست هانم هذه وتلجأ إلى القضاء لأنه وكلما طلبت من زوجها شيئا قال لها: حاضر يا روحي، بدل من أن يقول لها: أوكي سويت هارت.. وبالمناسبة فالجامعة الأمريكية التي درست بها موجودة في القاهرة، ما يعني أنها متخوجنة بالعافية وليست خواجية بحكم العيش في بلد الخواجات الأمريكان.
ولو كانت تلك الست مقياسا يعتد به لقمت برفع دعاوي على عيالي في المحاكم لأنهم يوجعون قلبي بالتحدث بالإنجليزية مع أصدقائهم وزملائهم، الذين درسوا معهم مناهج العلوج والطراطير (الأمريكان والبريطانيين حسب تعبير حبيب الجماهير وزير الإعلام العراقي الأسبق محمد سعيد الصحاف)، وهناك سودانيون يحدثونني بالعامية الخليجية، ويكون عمر الواحد منهم 25 سنة أي أقل من السنوات التي قضيتها في منطقة الخليج فأود لو أحشو أفواههم بالشطة.
وبسبب طول الغياب عن السودان فإنني أجهل الكثير من المفردات المستجدة في العامية السودانية، ومن عجائبها أنك قد تسمع شابا أو شابة تتحدث عن الفردة فتحسب أن الحديث يتعلق بحذاء (فردة يمين أو شمال) ثم تكتشف أن فردة تعني الحبيب أو الحبيبة.. وهذا دليل على فساد مريع في الذوق العام لأن الإشارة إلى الحبيب بـ «الفردة» إشارة إلى أن المتكلم فردة وأن كليهما يمثلان «زوجا – ثنائيا مكملا لبعضه البعض».. بس، في النهاية، فردة أو فردتين ترمز إلى الجزمة!