جعفر عباس

فلاش باك لندني (1)


ما زلت في لندن منذ الخامس من رمضان، وكانت فترة الصوم ملحمة بطولية لأن مدة الصيام كانت 18 ساعة ونصف الساعة، وفي نهار بذلك الطول كان لا بد من الخروج إلى الشارع، ورغم أنني لندناوي مخضرم إلا أنني وفي زيارتي الحالية للمدينة حسبتها مكانا آخر، ففي شهر رمضان في مدينة غير مسلمة تظل متعجبا من أن الذين من حولك لا يستترون إذا ابتلوا، فتراهم يأكلون ويشربون وهم يمشون، ولكن الجهاد الأكبر كان في مجال غض البصر، فبنات بريطانيا يبحثن عن اي ذريعة تبيح لهن التخلص من اكبر قدر ممكن من الملابس، وبزعم ان «الدنيا صيف»، كان اللحم الابيض مكشوفا ومتحركا في كل الأنحاء ومهما حاولت أن تتفادى النظر إلى واحدة أكثر من مرة فإنك تجد أن واحدة على واحدة أوقعتك في النظر إلى الآلاف من قليلات الحياء.
ولكنني أزور لندن هذه المرة بقلب جامد، وبلا خوف لأن زوجتي التي هي بعلتي وحرمي وعقيلتي وقرينتي وأم عيالي (ست شخصيات في واحدة، كان الله في عوني)، ستوفر لي الحماية اللازمة، وتهش عني الطامحات إلى نيل الحظوة عندي بمجالستي أو مراقصتي كما حدث لي عندما أتيت إلى لندن شابا غٍرا في السبعينات، فأقام المعهد الذي كنا ندرس فيه حفلا بمناسبة مفتعلة وغردت الموسيقى المعلبة فتشابكت الأيدي حول الخصور والرقاب وبدأ التمايل لإعطاء الانطباع بأن الموسيقى تجنن، في حين أن الراقصين كانوا في الواقع يتمايلون انتشاء باحتضان بعضهم البعض، وبلا لف ودوران فمثل ذلك الرقص تعبير رأسي أو عامودي عن رغبات أفقية.
ما علينا فقد كنت أقف في زاوية قصية ارقب الجمع المتهادي عندما اقترب مني أحد أساتذتي وكان يهوديا (وقد أصبحت منذ يومها تطبيعيا خطبا لوده) وسألني لماذا لا تطلب من واحدة من الفتيات أن تراقصك؟ انفجرت في وجهه: اسمي جعفر عباس وليس جعفر كاريوكا! هل تعتقد ان حفيد عنترة، ذلك الفارس الأرعن الذي رفض عرضا من عبلة بالهرب والزواج لوضع عائلتها أمام الأمر الواقع، يمكن أن يعرض شرفه وشرف القبيلة للامتهان؟ ألا تعرف أننا في العالم العربي نفهم المؤامرات وهي طايرة ونكتشف كل يوم نحو عشر مؤامرات يحيكها الأعداء ضدنا؟ أتريد مني أن اراقص فتاة كي تنشر الصحف الإسرائيلية صورتي في صفحاتها الأولى نكاية بعنترة الذي عارض التطبيع في عصر كان فيه اليهود منتشرين في اركان بلاد العرب متمسكنين حتى يتمكنوا؟
ألا تدري أننا أمة تؤمن بالتخصص ومن ثم فإن الرقص عندنا يتطلب مؤهلات وزيا معينا؟ من أين لي ذلك الزي ذي فتحات التهوية التي تسمح للجماهير بالاطلاع المباشر على امكانات الراقصة الفنية والبيولوجية؟ أفحمت الرجل فتركني في حالي، ثم رأيته يتحدث مع كائن هلامي عملاق.. ثم تحرك ذلك الكائن باتجاهي ووقف أمامي: دهمة سوداء تفوح منها رائحة الخمر والتبغ: امرأة مجازا بحكم أنها ترتدي ملابس نسائية وتعتبر بيولوجيا من الثدييات، عدة نساء في هيكل خرساني واحد، قطرها نحو متر ونصف المتر، وارتفاعها متران، وكانت سوداء في لون الزفت، ولم يكن ذلك ما ضايقني فيها فانا والحمد لله أزفت من الزفت من حيث اللون، سألتني: دانس؟
فرددت عليها: نو.. جعفر عباس.. جافار أباس! قررت أن ادعي عدم الإلمام بالإنجليزية، هنا أمسكت بيدي ووضعتها على تلة من اللحم قرب كتفها ووضعت يداً وزنها نحو نصف طن على كتفي لتريني ما المقصود بـ «دانس»، فقلت لها بلسان انجليزي فصيح أنني انتمي إلى أمة محافظة قد يشرب بعض افرادها الخمر، وقد يحششون، ولكنهم لا يقربون لحم الخنزير، و.. قاطعتني مزمجرة: تقصد أنا خنزيرة، سأريك كيف يكون الرقص ثم أطبقت بيديها على عنقي وخلال ثوان كان رأسي قد غاص في لجة من اللحم والشحم المشبع بالكولسترول والبيرة، وبدأت أرفس وأتلوى بحثاً عن بعض أوكسجين، وكلما فعلت ذلك ازدادت تشبثاً بي، ربما حسبتني أتلوى من فرط الانتشاء.

jafabbas19@gmail.com