اعتقال “السديرة” (2)
الإجراءات الأمنية للحد من ظواهر التطرف من شأنها تعميق الفجوة بين التيار الإسلامي الوسطي والتيار الإسلامي الجهادي الإقصائي..ويملك التيار الإسلامي الوسطي الحاكم مؤهلات تجعله قادراً على الحوار مع السلفيين الجهاديين، مثلما انفتح في النصف الثاني من تسعينيات القرن الماضي على العروبيين الوحدويين بمختلف تياراتهم، من بعث سوري إلى بعث عراقي إلى ناصريين، ولكنه كان انفتاحاً تنظيمياً أكثر منه فكرياً حيث جمع “الترابي” شتات الإسلاميين والعروبيين في المؤتمر الشعبي الإسلامي، قبل أن يثير المؤتمر مخاوف العرب الخليجيين بإيعاز من الغرب المعادي لأي تقارب بين التيارات الثورية العروبية والتيارات الإسلامية.
ولا تجد في الساحة اليوم تياراً مؤهلاً لكبح جماح الشباب المتحمس بالحوار والحسنى إلا الإسلاميين الوسطيين في السودان، حتى لا يخوض الشباب من الإسلاميين السلفيين الجهاديين في مواجهات هوجاء لا يضبطها هدف أخلاقي أو عملي، يسبب الاختلالات في معايير الاستيعاب التنظيمي. وقد (انغمست) حكومات أقوى من حكومة السودان وأكثر عمقاً في معارك مع الإسلاميين وخرجت منها خاسرة.. ولا تصنف حكومة السودان حتى الآن ضمن الحكومات التي يعتقد شباب الإسلاميين الجهاديين بأنها كافرة وخارجة عن الملة ينبغي قتالها.. ولكن ردة الفعل تضع العلاقة بين الحكومة السودانية وهذه التيارات في موضع يشتهيه كثير من أعداء الطرفين.. لكن العجز الفكري والانصراف لشؤون الحكم ومغانمه ورغد العيش صرف مفكرين إسلاميين حركيين عن رسالتهم في الحياة، وطاقات شباب التيار السلفي الجهادي التي تفيض حماساً ينبغي إيجاد معادلة لتفريغ تلك الطاقات وإلا تعرضت الحركة الإسلامية للردة الفكرية وانفجارات طاقات الشباب المتدفقة في شرايين ظاهرة التكفير والهجرة تؤذي الحركة الإسلامية، وتؤجج الصراعات بين الإسلاميين أكثر من العدو المستبد.. وقد لاحظ المفكر “فولر” في كتاباته عن الحركات الإسلامية وطرق مواجهتها خاصة في الجزائر وتونس، أن القمع واستخدام القوة والحبس والقتل لا يزيد تلك الحركات إلا قوة، بشرط أن لا يدفعها لارتكاب أخطاء ذاتية ولجوء الحركة الإسلامية السودانية الحاكمة إلى آليات الدولة وحدها لتخفيف غلواء بعض المتطرفين الإسلاميين ربما يعود إلى هيمنة التكوين الثقافي، وأثر الدراسات القانونية على كثير من رواد الحركة الإسلامية.. وقد اعتبر المفكر الموريتاني “محمد مختار الشنقيطي” القانونيين أقل جمهور المثقفين كتابة في قضايا الفكر والحضارة والثقافة، وفي تجربة الحركة الإسلامية السودانية عجز عن حلول لقضايا البلاد من خلال قدح الذهن وإعلاء قيمة الفكر على آليات الضبط والرقابة أو ما يعرف بأهل الفعل الذين أغرقوا التجربة الإسلامية في أخطاء كبيرة، جعلت مفكرين في مقام د. “أمين حسن عمر” و”حسن مكي” ود. “عبد الوهاب الأفندي” في النصف الأول من التسعينيات (مبررين) أكثر منهم قادة للدولة والمجتمع.
إن التيار السلفي الجهادي عبر عن نفسه في العراق والشام من خلال تنظيم (داعش) الذي يختلف عن تنظيم الإخوان المسلمين بوجهه الأممي، ويقترب كثيراً من تنظيم القاعدة.. وهي تنظيمات منكفئة على نفسها لها اجتهاداتها الخاصة بشأن الدولة.. ولكنها اجتهادات تصادم كثيراً من الواقع العملي وتبدو أقرب للأماني والأشواق.. ولا يحظر القانون في السودان الانتماء لتنظيم الدولة الإسلامية، لأن الانتماء للتنظيم المعني فكرياً وليس تنظيمياً.. ولم يصدر حتى اليوم تصنيف سوداني لحركة (داعش) ولا مطلوب من حكومة السودان القيام بدور المحارب والمناهض للإسلاميين السلفيين، كما فعلت بعض بلدان في المنطقة، ولكن السودان مؤهل أكثر من كل البلدان الإسلامية لقيادة حوار بين التيارات الإسلامية لتحقيق الوسطية المطلوبة، بشرط أن تعود الحركة الإسلامية الحاكمة لوظيفتها التي انتدبت لها نفسها، دون أن يكون ذلك على حساب دورها في حماية الحكومة والمنافحة عنها بما تملك.