منوعات

القصة القصيرة الأخيرة التي كتبها الصحافي الراحل داؤود مصطفي

الصحفي الرياضي الراحل الاستاذ داؤود مصطفي كان قد بعث لي بقصة قصيرة قبل شهرين من رحيلة مصحوبة برسالة قصيرة يقول فيها (صباحك ابيض .. ودافىء .. كيفك ليك وحشة .. هذه هى المحاولة السادسة فى كتابتى للقصة القصيرة ..رايك يهمنى جدا) ولم اقل له رأيي .. ويفاجؤني رحيله أول أمس .. وكنا قد التقينا قبل ايام قلائل بحضن الشارع .. وتبادلنا اشواقنا ..وحدائق من الذكريات القليلة التي جمعتنا والطويلة بمداها .. واليوم انشر القصة في ( أنفاس الكلام ) لنطالعها معا .. وأتذكر و.. أتذكر واتمني ان تصلنا كل قصصه فهو كان مبدعا ليس في الكرة والهلال والصحافة فقط إنما في الأدب أيضا )( المحرر )

كيفنك ياعم جابر .. وأولادك كيفنهم ..!؟

يكتبها: داؤود مصطفى

• وأخيراً ستغدو من أصحاب الملايين يا جابر .. ستنال خمسين مليونا ما كنت تحلم بها ، ولا فى الخيال ..!
• يا مرحى ستحل كل مشاكلك ، ستحلق فى أجواء الرفاهية ، وتنعم فى هناء العيش ورغده ، وستهتف بملء فيك « وداعاً يا ظلام الهم على أبوابنا ما تعتب « .. فرجت يا ليلى .. فرجت يا زوجتي العزيزة الصابرة يا أم عيالي ، ستحصدين ثمار صبرك الطويل وصمودك النبيل ، ستنالين كل ما تشتهيه نفسك ، سترتدين « العبايات الماخمج « و» التياب العجب « فالعيد على الأبواب ، ولن تذهبي بعد اليوم إلى جارتك « علوية مظاهر « لإستعارة ثيابها الجميلة لتشاركي بها فى مناسبات الأعراس ..لقد احرجتك ذات حفل حين إستعرت منها ثوبها الذهبي الجميل ، ودخلت به حلقة الرقص لترقصين كالفراشة فكان ان دخلت « علوية مظاهر « وراءك لتحرجك امام المعازيم وأهل العرس ، ولسانها الزفر يلسعك بسياط من نار « هوى يا ليلى .. توبى اللابساهو دا لوكنت برقص بيهو جنس رقيصك دا ..زمااان كان إتقطع وانتهى ..وما كان جيتي لقيتهو عشان تتسلفيهوا « …!»
• انه ما زال يتذكر .. حين جاءته ليلى وهى تنتحب لتروى بدموعها كيف ان « مظاهر» احرجتها « وسط الدايرة « وكيف انطلقت بعدها ضحكات المعازيم تسخر منها وتعبىء سماء الحفل وتحشده بالقهقهات حتى خال الجميع انهم فى فاصل مسرحي كوميدي ، بينما ليلى تشاهده فاصلا من الكوميديا السوداء .. هوني عليك زوجتى العزيزة .. دعك من « دلاقين عوضية مظاهر « وثيابها العتيقة ، ستتوشحين بأرقى ثياب الموضة الحديثة وتلبسين الذهب الخالص ، الذي طالما تمنيتيه ، وستفعل العجب ومالم يخطرعلى قلب بشر ، اليست المقولة الشعبية تقول « ان من يملك المال يمكنه ان يضع الحناء فى أي موضع من جسمه « ..!
• ستشتري لأولادك الأربعة ملابس العيد الجديدة ، لقد تألمت كثيراً حين لم تستطع ان تفي بوعدك لإبنتك « جميلة «الصبية الشاطرة ، وقد أحرزت مجموعاً كبيرا فى الامتحان أهلها لدخول كلية الطب … الدكتورة الصغيرة طلبت منك فقط بنطالين من الجينز وبلوزتين وموبايل « سامسونج « وانت توعدها كل يوم فلا تفي بوعدك اليها ..!
• ما عليك الان ستحل كل مشاكلك ، والمهم فى هذا كله ستركب السيارة خاصتك ، ستحلق فى سماء الرفاهية والسؤدد ، ولن تمشى برجليك بعد الان ولن تدافر علي ابواب الحافلات أو تلسعك الشمس الساخنة فى انتظار المواصلات !
• خمسون مليون جنيه ستدخل جيبك ، والمطلوب منك فقط يا جابر ان تقف امام مولانا القاضي تدليٍ بشهادتك لصالح جارك عبد المتعال صاحب العمارة الفارهة .. أن تقول أقسم بالله العظيم ..أن اقول الحق ..ولا شىء غير الحق ، ستقول للقاضى إن قطعة الأرض التى تقف عليها عمارة جارك ذات الطوابق الأربعة هي ملك خاص له ، ستقسم بان البنت سعاد الوارثة الوحيدة للارض قد باعت القطعة لعبد المتعال قبيل سنوات ثم تنكرت للبيعة ، ستدعي بانك وثلاثة اخرين كنتم شهودا على وثيقة البيع ، لقد رتبت كل الأمور ، جهزت بقية الشهادة الزور , واكملت فصول المؤامرة على المسكينة سعاد .. كل هذا من اجل خمسين مليون جنيه …!
• خمسون مليونا ليست بالمبلغ الهين ، ولو عملت ما تبقى من عمرك فلن تحصل الى هذا المبلغ .. نعم هى شهادة زور ولكنها تساوي الملايين ، وعبد المتعال لن يجد من يخرجه من هذه الورطة غيرك انت ياجابر .. ولكن هل تبيع ضميرك بهذا المبلغ فقط ..؟ .. إن العمارة تساوي مئات الملايين ، ولولا شهادتك التى ستدلي بها ستهدم باكملها ،وتمنح أرضها لسعاد صاحبتها الحقيقية ، لماذا لا تطلب من عبد المتعال ان يضاعف لك المبلغ .. نعم ان شهادتك تستحق مائة مليون وليس نصف المبلغ ، ستقوم غدا صباحا بإخطار عبد المتعال بالمستجدات الجديدة وسوف لن تقبل بالخمسين .. أليست المسالة كلها حرام فى حرام ، ان فقة الأنتهازيين واللصوص يقول « لوعشقت أعشق قمر ..ولو سرقت أسرق جمل « فلماذا لا تنال الجمل بدلا عن الحمل …
• صباح اليوم التالي وفى طريقه إلى عبد المتعال كانت سعاد تلتقيه فى الطريق ، وبابتسامة بشوشة كانها مسروقة من ثغور الملائكة كانت تقرئه السلام : كيفنك يا عمي جابر ..اولادك كيفنهم ..وزوجتك ليلى اخبارا شنو .. بالله سلم لي عليهم لامن اجيها .. قول ليها اليومين ديل بمارض فى بتى الصغيرة ..
• يا إلهي هل تعرف هذه المسكينة ما يضمره لها جابر من سوء نية ، وهل يجروء جابر بعد اريحية سعاد التى اخجلته ان يشهد ضدها ؟ .. هي المرة الأولى التى تتحدث امامه سعاد رغم معرفتهما منذ زمان طويل ، يعرف والديها المرحومين اللذين كانا يعتزان بها ايما اعتزاز ، كونها ابنتهما الوحيدة فى هذه الدنيا ،وحين توفيا كانت هى الوريثة الوحيدة لقطعة الأرض التى تطل على الشارع الرئيسي، وقد تغول عليها عبد المتعال ونسبها الى نفسه فبنى عليها العمارة الفارهة ذات الطوابق الأربعة .
• انه يجلس الان داخل صالون عبد المتعال ، سيخبره بضرورة مضاعفة المبلغ ..وإلا فلن يشهد لصالحه ، ولكنه ينهار أمام سطوة البنكنوت وعبد المتعال يفتح امامه شنطة مليئة بالأوراق الخضراء ، ويراها هو بألف لون ..هو مشهد لم ير مثله إلا في الأفلام السينمائية .. هذا نصف المبلغ يا جابر 25 مليون جنيه ..الجنيه ينطح الجنيه .. وباقي المبلغ بنهاية المحكمة ..
• ما نطق جابر ببنت شفة .. بل كانت انفعالاته الفيسيولوجية تنوب عنه التعبير .. فقد تصبب عرقه رغم برودة الطقس حتي كان يحس بالعرق ينسال من قمة رأسه الي اخمص قدميه .
• خطف شنطة البنكنوت بقوة ثم انطلق خارجاً دون ان يتفوه بكلمة واحدة أمام عبد المتعال الذى رسم وقتها ابتسامة ماكرة علي شفتيه ، ماهي إلا سويعات وجابر يقفل على نفسه الباب بالضبة والمفتاح .. ان رزم البنكنوت لا تعد ولا تحصى ، فكيف يتثنى له عد الملايين الـ 25 ورقة ورقة ..!؟
• يااااه ما أجمل الثروة .. وما أحلى بريقها .. لقد عرف الان لماذا هم اصحاب الجاه يسيطر عليهم كل هذا الغرور والطغيان ، فيرون الناس من أبراجهم العالية وكانها كائنات صغيرة ليس إلا ..!
• ولكن هل حجبت كل هذه الأموال كلمات سعاد وهى تردد على مسامعه ..» كيفنك عم جابر ..وكيف أولادك « .. الان تتراءى له صورة سعاد وإبتسامتها المشرقة ، وطفلتها المريضة ، الان يتذكرها ووالديها الراحلين .. ثم يعاتب نفسه .. كيف لى بيع ضميري بخمسين مليون ؟ … خمسون مليونا يشتري بها عبدالمتعال كرامتك ؟ .. لا تتفلسف فتقول « كرامة شنو « ..وانت تعرف ان الكرامة هي ضميرك وكل رأس مالك .
• لا ..لا لن اشهد ضد سعاد لن اطعم اولادي الحرام .. ساعيد لعبد المتعال ماله الحرام .. الان ستحسم الأمر … وبسرعة كان يقف من جديد امام عبد المتعال … شيل قروشك الحرام يا عبد المتعال .. انا ما حاشهد ضد البت المسكينة دي .. ويضحك عبد المتعال وهو ينظر الى جابر بازدراء .. هى ذات النظرة المغترة التى ينظر بها أصحاب الثروة لفقراء الناس من عل .. ولكن جابر يري الان عبد المتعال بكثير من الإزدراء ..!
• كيف تجروء يا بن الكلب .. ان ترد أموالي وترفض تنفيذ ما اتفقنا عليه .. انها خمسون مليونا يا أهبل .. هذا المال لونذرت كل قبيلتك عمرها فلن تستطيع الحصول عليه ..!
• يرد جابر : دع ملايينك تنفعك وفى المحكمة سأشهد ضدك .. سأقول الحقيقة لصالح المسكينة سعاد … وهو يتفوه بهذه الكلمات كان يشعر بان ضباب الحيرة والألم قد تلاشيا عن نفسه .. عاد اليه الصفاء والهدوء من جديد .. انه الان يسمع كلمات البنت سعاد تنساب إلي دواخله كلحن سماوى ، وتسكن فى اذنيه سكون النغم فى قصب الربابة « كيفنك يا عم جابر ..وأولادك كيفنهم «
• الخرطوم 16 يناير 2011 م

صحيفة ألوان