جعفر عباس

هذا رأي غرين وليس رأيي (1) و (2)


في عام 1998 أصدر روبرت غرين كتابه «قوانين السلطة الـ 48»، ولقي الكتاب رواجا منقطع النظير وقد صدرت منه ثلاث طبعات حتى الآن.. عثرت على الكتاب أول مرة قبل نحو خمس سنوات وقرأت منه نحو 15 صفحة وألقيت به جانبا بعد أن أثار في نفسي الشعور بالتقزز، وقبل يومين أو ثلاثة أصابني أرق حملني على ترك الفراش، ومن تجربة طويلة في طرق استدراج النوم أعرف أن عليك وأنت تسعى لأن تنام عدم قراءة كتاب جاد، أو القيام بأي جهد يتطلب نشاطا ذهنيا (القنوات التلفزيونية العربية الرسمية لها قدرة عجيبة على إصابتي بالنعاس).
المهم تذكرت كتاب غرين وعثرت عليه، وبدأت أقرأه على عجل: أقرأ سطرا وأترك سطرين، حتى وجدت نفسي مستغرقا في القراءة بتأن، وجاء الصباح وأنا صاح.. نقطة نظام: السلطة والقوة التي يتكلم عنها الكتاب لا علاقة لها بالحكم بل ببيئة العمل، أي أنه ينصح القارئ بالأساليب الواجب اتِّباعها كي يرتقي سلم السلطة الوظيفية، ويصبح عالي «الدرجة» ومن أصحاب الحل والربط.. المؤلف أمريكي وبالتالي فإن نصائحه تلك تتعلق في معظمها بالعمل في الشركات، فالأمريكان والغربيون عموما، وبعكسنا، لا يحبون العمل الحكومي.
النصيحة الأولى في الكتاب هي: لا تحاول أبدا أن تتفوق على رئيسك سواء في مجال الأفكار او الإنجاز أو حتى في عرض وجهات النظر، بل أعطه دائما الإحساس بأنه ينبوع الحكمة، حتى لو كانت لديك أفكار وإنجازات متميزة فانسبها إلى رئيسك.. طبعا هذا ما نسميه نحن بالعامية «البكش» وبالفصحى التملق، وهي صفات مرذولة ولكن هناك الكثيرون بيننا يمارسونها، فتجد «الدكتور» الذي نال شهادته عن جدارة واستحقاق يستمع في أدب إلى تخاريف مديره الذي لا يحمل سوى شهادة متوسطة «مزورة»، ثم يقول للمدير: لا أدري وش كنا راح نسوي بدونك.
روبرت غرين يبرر ضرورة عدم التفوق على رؤساء العمل بأن معظمهم لا يحسون بالأمان.. وهذا صحيح فما لا يدركه معظمنا هو أنه كلما علت مرتبة الإنسان الوظيفية كان معرضا لمخاطر الطرد والشرشحة.. لأنك كلما صرت صاحب وظيفة كبيرة اقتربت من مراقي السلطة العليا التي ليس فيها «يَمَّه ارحميني».. وفوق هذا فعندما يحس مديرك او رئيسك بأنك متفوق وحريص على إثبات ذلك التفوق، يزداد خوفا على مركزه: الملعون هذا يريد يجلس مكاني!.. ومع النصح بعدم إعطاء رئيسك في العمل الإحساس بالدونية، يقول لك غرين: لا تعول على كونه يحبك و«تاخد راحتك على الآخر».. لا عيوني، فمهما كان رئيسك يحبك فإنه يتضايق من رفع التكليف بينك وبينه.. أثبت له أنك تقدر محبته لك بمزيد من الاحترام، حتى لو لم يكن جديرا بالاحترام، فالمسألة أكل عيش (أذكرك هنا بأن هذه أفكار روبرت غرين وليست أفكار أبو الجعافر) ولا بد من التذكير بأنني لا أتفق مع معظم ما جاء في ذلك الكتاب من «نصائح»، ولكنني أجد نفسي متفقا إلى حد كبير معه في أمر عدم توظيف الأصدقاء، فقط لأنهم أصدقاء.. منطق غرين هنا هو أنك تريد حولك موظفين ذوي كفاءة، وأنه ينبغي عليك مساءلة ومحاسبة كل مقصر، وبالتالي فقد «يعشم» أصدقاؤك في صداقتك ويقصرون «رقبتك»، أي «يفشلونك».. وفي رأيه فلا مجال للمجاملات على حساب العمل.. خذوا في الاعتبار أن روبرت غرين هذا يتكلم عن بيئة العمل في الولايات المتحدة، ومن ثم لا تستغرب نصيحته لك بالاحتفاظ بمسافة معقولة بينك وبين بقية الموظفين، بل ينصحك بالتحديد بعدم كشف أوراقك أمام زملائك في العمل، ويمضي إلى أبعد من ذلك ويقول لك: أعطهم إشارات مضللة، ولا تجعلهم يعرفون نواياك ومقترحاتك ومشاريعك وخططك.
يتكلم روبرت غرين في كتابه «قوانين السلطة الـ48» عن بيئة العمل وكأنها ساحة حرب: أنت في جبهة والعدوّ (زملاؤك) في جبهة مقابلة.. والحرب خدعة، وعليك ان تجعل «العدو» محتارا في أمرك ومهموما ومشغولا بالتفكير فيما تخبئه، وهذا ما يعطيك مهلة كي تعمل «برواقة» لتحقق ما تصبو اليه.. ومن أهم قوانين النجاح عند غرين عدم الإكثار من الكلام من منطلق ان اللسان حصان قابل للفلتان، وأن الكلام بالتفصيل عن كل شيء يجعلك كتابا مكشوفا وسهل الفهم أمام منافسيك في مكان العمل، ومن ثم عليك ان تكون قليل الكلام، وأن تكون عباراتك غامضة ومبهمة. المسألة بالنسبة إلى غرين معركة، الميكافيللية فيها مباحة، وربما يعرف الكثيرون ان ميكافيللي له مقولة معروفة «أن تكون مهابا خير من أن تكون محبوبا»، ومن ثم فإنه ينصحك بالحرص على تحسين وتعزيز سمعتك مع بذل كل الجهد للنيل من سمعة الآخرين (هذه في تقديري من أحقر الخصال في بيئة العمل).. ويقول غرين ان عليك ان تؤكد سمعتك كشخص متميز بالتركيز على خصلة واحدة: (مثلا) الحزم، أو الانضباط، أو الكرم، أو المكر، أو المهارة.. تختار واحدة من هذه الخصال حتى لو لم تكن متأصلة فيك (فالمسألة عند غرين تمثيل في تمثيل والمهم عنده هو ان تصل الى غايتك بنيل السلطات الوظيفية العليا). وحتى لو كنا نختلف مع المؤلف في كثير مما ذهب اليه فإننا على الأقل سنكتشف أنه يتكلم عن نماذج موجودة بيننا من حيث انتهازيتها وطفيليتها (وهذه ليست خصالا سيئة في نظر غرين).. يقول صاحبنا ان عليك ان تحرص على لفت الانتباه اليك في الشركة او الإدارة، شريطة ألا يكون ذلك بالثرثرة، فالإكثار من الكلام في عرف غرين «لا يودي ولا يجيب» في مجال العمل، بل «يودي في داهية».
وربما كان من المناسب هنا استذكار ثورة الليبراليين ضد قيصر روسيا مطالبين بتحديث البلاد ومحاربة الفساد والنهضة الصناعية والزراعية، وفشلت الثورة واعتقل قادتها ونال أحدهم حكما بالإعدام، ووضعوا الأنشوطة حول رقبته وسحبوا المنصة التي كان يقف عليها لتنقصم رقبته ويموت ولكن الحبل انقطع، ولم يمت الرجل، وكان الاعتقاد السائد وقتها ان من ينجو من الموت بتلك الطريقة لا بد ان يكون مرضيا عنه من السماء، فيتم العفو عنه، وهكذا ما ان بلغ القيصر نبأ انقطاع حبل المشنقة، حتى طلب ورقة يصدر بموجبها عفوا عن الرجل، وقبل التوقيع على الورقة، رفع رأسه وسأل حاشيته: وهل قال هذا المتمرد شيئا بعد ان نجا من الموت؟ قالوا له إنه التفت الى الجماهير وصاح: انظروا.. الحكومة الروسية لا تتقن حتى صنع الحبال، وكان ذلك ما قاله فعلا قائد الثورة الليبرالية، وهكذا غيّر القيصر رأيه وأمر بإعادة تنفيذ الحكم بالإعدام في الرجل وتم ذلك من دون ان ينقطع الحبل!!.. هذه واقعة مدونة في كتب التاريخ ولعلها أبلغ دليل على صدق مقولة «لسانك حصانك.. إن خنته خانك».
يؤمن غرين بأن لفت الانتباه الى النفس من مقومات النجاح في الوظيفة، بدرجة أنه ينصح القارئ بأن يحاول ان يعرض نفسه للإساءة والشتم للفت الانتباه اليه، إذا لم تكن لديه مواهب وقدرات خاصة تجعله محط الأنظار.. ودليله على ذلك ان الكثيرين من المهرجين والأوباش يسعدون بأن يكونوا في مجالس علية القوم رغم أنهم يتعرضون للتهكم ويصبحون مادة للهزء والسخرية، ومن وجهة نظر غرين فلا ضير في ذلك لأن المهرج يكون في خاتمة المطاف «واصلا» وأغراضه مقضيَّة وطلباته مستجابة.
في رواية «تلك العتمة الباهرة»، للمغربي الطاهر بن جلون يقول بطل الرواية «الواقعية» ان والده كان مهرجا في الأوساط العليا وبالتالي فقد تبرأ منه عندما دخل هو (بطل الرواية) السجن بتهمة معارضة الحكومة.

jafabbas19@gmail.com