عبد الجليل سليمان

نقد التابوهات والبُنى السياسية

في هذه البلاد على وجه التحديد، ثمة رجال (مقدسون) في كافة المجالات في الثقافة والدين والسياسة والأكاديميا، رجال لا يمسن أفكارهم ولا (تنظيراتهم) أحد بطيف حرف خاطف إلا وانهالت عليه سنان القوم لا تترك في جسده شبراً إلا وتدميه، وكأنهم ليسوا بشراً يخطئون كما يصيبون، فإذا قلت مثلاً إنك لا تتفق مع الراحل إسماعيل الأزهري في سياسات حكومته التي دشن بها إدارة دولة ما بعد الاستقلال، أو انتقدت (فرضية) الراحل بروفيسور عبد الله الطيّب القائلة بأن هجرة الصحابة (رضوان الله عليهم) إلى الحبشة، إنما كانت إلى السودان الحالي فإن القوم ممن نطلق عليهم (المفكرون والمثقفون) سرعان ما يستلون سيوفهم ويعلنون عليك الحرب، وكأنك سخرت من آلهتهم.
يعزو بعض علماء النفس ذلك إلى أن الثقافة تلعب دوراً كبيراً في تحديد سيكلوجية الفرد والجماعة، وأن هذه السيكلوجية هي التي تؤثر تأثيراً مباشراً في السياسة وتصرفات السياسيين وردود أفعالهم في هذا الموقف أو ذاك، ولأن السياسة أحد العوامل المهمة في تغيير الثقافة والسيكلوجيا للفرد والمجتمع، فإن تشابكات وتعاضدات وتداخلات تلك المفاهيم بعضها في بعض تجعل الحديث عن كل واحد منهم بمعزل عن الآخر وكأنه حرث في بحر، لا يفضي إلى نتائج ملموسة بقدر ما يزيد (الهتر والتهاتر)، و(يدغمس) الصورة الكلية ما يترتب عليه إعادة إنتاج ذات الأخطاء وتكرارها سنة إثر سنة إلى أن بلغنا مشارف عامنا الستين من تاريخ انعتاقنا من (براثن) الإدارة الاستعمارية إلى مخالب الإدارة الوطنية ونحن نجتر ذات الخطاب وذات الأخطاء، نعيد تدويرهما بحسب مقتضيات العصر.
المثقفون، هنا، وكما يضيقون ذرعاً بنقد آرائهم وانتقاد مواقفهم، فإنهم يضيقون أفقاً (وطنياً وثقافياً) واسعاً ومتنوعاً بغية صرف الأنظار عن خطاياهم و(اختبالاتهم)، يخشون من أفق يفتح ذراعيه باستمرار للترحيب بالأفكار والاستبصارات والمقاربات النقدية الجديدة. فيما ظل السياسيون منذ إسماعيل الأزهري وإلى (حسن إسماعيل) يتعثرون في أرضية (الممارسة السياسية) الشاسعة لجهة أنها معنية بكل تفاصيل حياة الإنسان (الفرد) والمجتمع ككل.
والسياسي الذي ليست لديه حساسية عالية ومعرفة عميقة بتفاصيل التنوع والتعدد الثقافي والاجتماعي، لن ينجز (نجاحاً) في عمله، لأنه وفي ما يظن استبصاراً بالأمور، فإنه في واقع الأمر يتخبط كمن يسير (معصوب العينين) في تلك المساحات الشاسعة ذات التضاريس المتنوعة، فتزل قدماه وينزلق، وهذا ما حدث من قبل وما يزال يحدث.
وإلى الآن – للأسف- ينشط كل السياسيين الراهنين كما نشط أسلافهم، ينشطون بين ظهراني أحزابهم وجماعاتهم وحركاتهم الموالية أو المعارضة باعتبار أنهم يمارسون هذه (اللعبة) ضمن مجتمع واحد (أب جلابية وتوب وسروال ومركوب)، فيما الواقع الماثل أكثر تعقيداً وتنوعاً وتركيباً.
إذن، نحتاج سياسيين ومفكرين ومثقفين أكثر خيالاً ممن يمشون في مناكب هذه الأحزاب الخربة والبائسة، كما نحتاج نقداً موضوعياً لتلك (التابوهات) الفكرية والثقافية، لربما كشف لنا عن قدراً من مساهماتها في تكريس هذا الخراب المديد.