إلى متى نتفرج على لوحة الموت؟
ربما يجزم الكثيرون اليوم أن إسرائيل أكبر المستفيدين من الحالة السريالية التي تعيشها المنطقة؛ والسريالية تعني فيما تعني، فوق الواقع وهي مذهب فرنسي حديث في الفن والأدب يهدف إلى التعبير عن العقل الباطن بصورة يعوزها النظام والمنطق.. وتوصف اللوحات السيريالية بأنها تلقائية فنية ونفسية، حيث تخلصت السيرالية من مبادئ الرسم التقليدية من خلال تركيبات غريبة لأجسام غير مرتبطة ببعضها البعض لخلق إحساس بعدم الواقعية.
فالمنطقة اليوم أشبه بلوحة سيريالية، تتقاطع فيها الاستراتيجيات الإقليمية والدولية وتتقاتل حولها المحاور والأحلاف، فقط وحدهم أهل الشأن في مقاعد المتفرجين بينما تمور الأرض من تحتهم مورا شديدا.. فالوطن العربي الذي يحتضن هذه المنطقة المأزومة غارق في مرحلة أفول لا تخفى على كل ذي بصيرة، يؤكده انهيار متتابع للدولة ومفهوم الإنتماء الوطني. لقد كان إسقاط النظام في العراق عام 2003، أكبر مفاصل التحولات التي تشهدها اليوم المنطقة العربية. لقد حوّل سقوط النظام العراقي استقرار المنطقة النسبي إلى حريق لا يبقي ولا يذر، وتلخّصت الوصفة الأمريكية للعراق باللجوء إلى كلّ ما من شأنه اثارة الغرائز المذهبية بما يخدم المشروع الإيراني في المنطقة.
ومصر اليوم أكبر الدول العربية، على مفترق طرق كبير وتهب عليها رياح كثيرة وتواجه سيناريو شد الأطراف؛ الدواعش يهاجمون من سيناء وليبيا، وهذا يجعل الأمن والشرطة منهكة في بلد اقتصادها في حالة شبه انهيار، وربما لن تستطيع الحكومة استنفار الأمن والجيش معاً، فكيف الحال إذا انتقلت الحرب من الأطراف إلى المركز عبر رعب التفجيرات على غرار ما يحدث في العراق في ظل استمرار حكومة عبد الفتاح السيسي في عملية الاستئصال السياسي والمدني لمناوئيه السياسيين منذ انقلاب 30 يوليو 2013.
هناك في اليمن، بلد يفتت ويعاد تكوينه وفق رؤية سقوط فكرة الدولة وإحلال رابط جديد يتفوّق على رابط المواطنة. وهو دور يقوم به الحوثيون بدعم محور إقليمي صريح وهو ما سيعطي دفعا جديدا لتنظيم القاعدة هناك. وفي سوريا احتكرت الطائفة والعائلة السلطة.. وهذا الوضع المدعوم أمريكيا ساهم في تمكين عناصر داعش في سوريا كرد فعل، وكنتيجة حتمية لحصار الثورة ضد نظام الأسد.
وللحقيقة أن الوطن العربي يشكّل إحدى المرايا العاكسة لعلاقات القوى والمتغيرات الهيكلية في النظام العالمي ككل، بالإضافة إلى أنه يمثل واحدا من المتغيرات فيه والتي لعبت أدوارا في تغييره ودفعه نحو آفاق جديدة.
يقولون أن أجمل فصول السنة هو الربيع الذي يعقب شتاءً مثلجاً وفيه تنبت الشجيرات وتتفتح الأزهار والورود ويستمتع الناس بهواء عليل منعش (يرد الروح).. فالربيع يُشبّه به دائماً شيء جميل مستحسن ومستحب ولذا سميت الثورات العربية بثورات الربيع العربي في إشارة لا يخطئها لبيب بأن عهود ما قبل الربيع العربي كانت تشبه الشتاء الموحش، بيد أنه لا الربيع جاء إلى تلك البلاد ولا استطاعت حكوماتها أن تدعم المجهود العربي في مواجهة إسرائيل العدو الحقيقي.. كان الخوف أن تتحول بعض الثورات إلى حالة فوضوية دائمة، لا الثوار يبلغون أهدافهم ولا النظم المتشبثة تنهار وتنـزوي وتتحول المنطقة برمتها إلى حالة من الفوضى تمكن الولايات المتحدة الأمريكية من ترتيب أوضاع المنطقة وفقا لمصالحها واستراتيجيتها وبالطبع ما يلائم كذلك مصالح واستراتيجية إسرائيل التي يبدو أنها في حالة استرخاء لم يسبق لها مثيل.. ولا تعني حالة الاسترخاء النوم على الخط بل تعني بناء القدرات بينما يقوم الآخرون وكذلك الظروف المواتية بتنفيذ الأجندة المرحلية. إن سرقة الثورات أو وأدها أو تغيير مساراتها أمر واقع ومحتمل بل حتمي في كثير من الآحايين.. السرقة قد تكون داخلية كما يمكن أن تكون خارجية.
قبل الربيع العربي كانت الافتراضات الأمريكية تقول: إن الأنظمة الحليفة في المنطقة قوية جدا وعلى استعداد لنشر أجهزة أمنها لغرس الخوف واستخدام القوة إذا لزم الأمر.. والجماهير خائفة وأملها ضئيل جدا في تحدي هذه الأنظمة.. وأقر دينيس روس أحد دهاقنة السياسة الخارجية الأمريكية حينها، بأن بلاده فوجئت بالأحداث التي شهدها المنطقة، وقال إنها “تحمل في طياتها فرصا هائلة ومخاطر كبيرة”.. والفرص الهائلة ليس بالطبع نشر الديمقراطية والسلام، ولكن هي الفوضى الخلاقة التي من خلالها يمكن إعادة رسم خريطة المنطقة.. نظرية الفوضى الخلاقة نادت بها وزيرة الخارجية الأمريكية الأسبق كوندوليزا رايس (2005 – 2009) ومعها عدد كبير من الساسة الأمريكيين، وأصبحت تلك الفوضى بذلك نظرية أمريكية تلائم هذه الألفية المأزومة بالطغيان الأمريكي. والمؤشرات تقول أن تنظيم داعش الذي نشأ على خلفية الظلم الذي حاق بالسنة في العراق جزء لا يتجزأ من هذه الفوضى المقصودة لذاتها.
وكمثال لسريالية المنطقة نجد أن روسيا تدعي محاربة داعش والولايات المتحدة تدعي ذلك أيضا؛ لكن تبدو روسيا اليوم غير آبهة بالانتقادات الأمريكية لها بدعم النظام السوري بالعتاد والجنود، بل أشارت إلى أنها قد تزيد هذا الدعم إذا تطلب الأمر، مبررة إياه بمكافحة النظام لتنظيم الدولة الإسلامية (داعش). وتحدث وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف عن الشحنات التي تنقلها روسيا جوا إلى دمشق ولم ينف احتواءها على تجهيزات حربية بعد أن كانت تصر بلاده على أن رحلاتها الجوية إلى سوريا تحمل مساعدات إنسانية فقط.