د.عبد الوهاب الأفندي

لماذا أبعد غازي إذن؟

[JUSTIFY]
لماذا أبعد غازي إذن؟

(1)

رغم الغموض المتعمد الذي غلف مبادرة الرئيس السوداني عمر حسن أحمد البشير في خطابه الاثنين الماضي، والشكوك في جديتها، إلا أن عرض الحكومة لحوار جاد مع كل أطياف المعارضة، بما فيها الجماعات المسلحة، يحتاج لاختبار جديته بوضع النظام والحزب الحاكم أمام التزاماتهما عبر الانخراط في الحوار، مع اشتراط إشراف دولي، أو افريقي في الحد الادنى، مع إطلاق حرية التعبير والتحرك السياسي ووضع آليات لإشراك الأطراف المسلحة.

(2)

وكان خطاب البشير قد أصبح موضع تندر في الأوساط السودانية بسبب تقعر لغته وغموض عباراته أو سخفها، بينما تعرض الخطاب لانتقادات من قيادات معارضة أوحى حضورها غير المتوقع لإلقاء الخطاب بأن صفقة عقدت وراء الكواليس. وقد عبرت هذه القيادات (مثل الشيخ حسن الترابي الذي أنهى حضوره قطيعة مع النظام استمرت منذ عام 1999) عن خيبة أملها لخلو الخطاب من المفاجآت التي روجت لها آلة النظام الإعلامية بين يديه.

(3)

كانت مفارقة كذلك حضور د.غازي صلاح الدين، القيادي السابق في المؤتمر الوطني، بعد أن كان قد أبعد من الحزب في أول بادرة من نوعها بعد أن وجه خطاباً للرئيس يطالبه فيه تحديداً بإطلاق مبادرة تكاد بنودها تتطابق مع ما طرحه الرئيس في خطابه. ولكن قيادات الحزب، وعلى رأسها البشير، رأت في نشر غازي لنص رسالته للرئيس خروجاً على الحزب وأصرت على طرده من الحزب. ولعل أول سؤال يطرح نفسه هو: إذا كان الحزب جاداً في طرحه لمبادرة الحوار، فلماذا طرد غازي ورفاقه من الحزب أصلاً لمجرد التوصية بإطلاقها؟

(4)

طرح البشير المبادرة باسم الحزب الحاكم في ما بدا بأنه خطوة ترمي إلى تعزيز قبضة الحزب على الحكم، واستيعاب القوى السياسية الأخرى في نظام يهيمن عليه. وكنت قد أشرت في مقالة سابقة إلى إرهاصات بأن البشير يريد إطلاق حقبة ساداتية يستخدم فيها شعار إطلاق الحريات لضرب مراكز القوى داخل الدولة بعد أن تخلص في وقت سابق من كبار المتنفذين في السلطة كما فعل السادات مع قيادات العهد الناصري.

(5)

يطرح هذا المسعى سؤالاً آخر لا يقل أهمية: وهو لماذا يرى المؤتمر الوطني، بعد قرابة ربع قرن في الحكم، أنه يحتاج للمعارضة لتنفيذ الوثبة التي زعم أنه بصدد إطلاقها؟ ما الذي يمنع الحزب من وثبة ووثبات إذا كان بصدد ذلك؟ ولعل هذا هو بيت القصيد، لأن ما يستشف من خطاب البشير أنه وحزبه يشعران بالثقة لمنازلة المعارضة في الساحة السياسية على أسس نزيهة. إلا أن الإشكالية ليست في أن السودانيين ضيعوا الفرص خلال ستين عاماً كما جاء في الرئيس، بل هي أن البشير وحزبه ضيعا ربع قرن من الزمان دون إنجازات يمكن الاعتزاز بها. وعليه فالحزب أشبه بتاجر مفلس يتأهب لمنازلة أصحاب الأرصدة الوافرة في السوق، وهو أمر غير ممكن بغير الاستدانة أو الغش.

(6)

كان بوسع الحزب الحاكم، لو شاء، استغلال انفراده بالحكم لضرب المثل في الحكم الصالح والنزاهة، والتجرد لخدمة الشعب، كما فعل حزب العدالة والتنمية في تركيا (قبل أن تدركه آفات الحكم في الآونة الأخيرة). عندها سيكون بوسعه مواجهة الناخبين بثقة، ولم يكن بحاجة إلى اتخاذ الإجراءات الاستثنائية من قمع وتكميم أفواه حتى يبقى في السلطة. ولن تكون هناك حاجة إلى دعوة للحوار في هذه الحالة، لأن الحوار بين فئات الشعب سيكون القاعدة وليس الاستثناء، وذلك عبر البرلمان والإعلام الحر واللقاءات المفتوحة وفضاءات المجتمع المدني والبنى التقليدية وغيرها.

(7)

الحزب الحاكم يدرك قبل غيره بأنه غير قادر على مواجهة خصومه في انتخابات حرة ونزيهة. ولهذا ظل يلجأ إلى إجراءات مثل تقييد حريات التعبير والتنظيم، والاستغلال السيىء للمال العام والسلطة. وكل هذه إجراءات تعمق أزمة الحزب ولا تعالجها، لأنها من باب التداوي بالتي كانت هي الداء. فهو مثل إدارة مصرف مفلس تعالج أزمته بالتلاعب بالحسابات، والتغول على ودائع العملاء، والاستدانة من غير رصيد. وكلها إجراءات تعجل بالانهيار عندما تقترب ساعة الحقيقة والحساب، وينكشف المستور (إذا كان هناك مستور في حالتنا هذه).

(8)

مهما يكن، فإن من الواجب أخذ الحزب الوطني إلى باب الدار، ووضعه أمام اختبار جدية لدعوته للحوار. ذلك أن الحوار هو أقل طرق التغيير كلفة وأسرعها. ولعل أقرب طريق لإثبات صدقية المؤتمر الوطني وجديته في الحوار يكون بإلغاء قرار إبعاد غازي ورفاقه وتكليفه ملف الحوار مع المعارضين. وإذا تعذر ذلك فإن أضعف الإيمان هو تكليف الملف شخصيات تحظى باحترام المعارضة والقبول بوساطة محايدة، إما من شخصيات وطنية مستقلة تجد القبول من الجميع، أو عبر آليات الاتحاد الافريقي. ولا بد أن يسبق الحوار إطلاق الحريات ووقف القمع في حق المعارضين، إذ كيف يصح الحديث عن حوار والأفواه مكممة؟

(9)

طريق الحل للأزمة السودانية أصبح واضحاً ويكاد يكون محل إجماع بين الأطراف السودانية. ويبدأ الحل بحوار جاد بين كل الأطراف بغرض الوصول إلى توافق حول دستور جديد وانتخابات حرة ونزيهة بعد إنهاء الحروب والنزاعات المسلحة، وتحييد مؤسسات الدولة ونزع السلاح من أي جهة سوى الجيش والشرطة. وكلما تم التعجيل ببدء الحوار، كلما اقترب الفرج.
[/JUSTIFY]

د/ عبد الوهاب الأفندي
صحيفة القدس العربي
[email]awahab40@hotmail.com[/email]