جعفر عباس

أستاذ على الأستاذة


فوجئت بسيدة تستوقفني في شارع عام وتسألني: مش انت أستاذ جعفر؟ قلت (نعم)، فقالت: طبعًا لا تذكرني. أحسست على الفور بالضيق لأنني لا أحب أن (يزنقني) شخص ما يفترض أنني أعرفه ويطرح علي سؤالا من شكله «ما عرفتني»؟ لهذا كدت أقول لتلك السيدة: وأنت بسلامتك فيفي عبده حتى أعرفك من شكلك؟ ولأنني مررت بمواقف مشابهة كثيرة حيث يستوقفني رجل أو امرأة لتحيتي ثم إحراجي بطرح السؤال: ما عرفتني؟
ما يضايقني في هذا الخصوص هو أنني أعرف أن من يزنقونني ليسوا من قراء مقالاتي الصحفية، فهؤلاء عادة لا يفترضون أنني أعرفهم، ثم إن السائل في هذه الحالة كان امرأة، وليس من عادة النساء طرح ذلك النوع من الأسئلة، إلا على من يعرفونهم جيدا.
سبب الضيق هو أنني أعرف أن هذا الأصلع، أو ذات الكرش والتجاعيد تلك كانت من تلاميذي، وإذا كان تلميذي أصلع، وتلميذتي ذات كرش وتجاعيد فحالي يغني عن السؤال، فبصفة عامة فإنّ الثمن المعنوي لتدريس البنات أكثر كلفة وإرهاقًا لأنّ البنات يتزوجن في سن مبكرة نسبيًا، فبعد سنوات من اعتزال التدريس، وقبل أن أفلح في جمع ربع المبلغ اللازم للزواج، صرت التقي ببعض تلميذاتي وهن بصحبة صبايا وصبيان من أرحامهن.
المهم صدقت مخاوفي، واتضح أن تلك السيدة كانت فعلا من تلميذاتي، وبمساعدة منها تذكرتها لكونها مهذبة ومتفوقة، وسعدت كثيرًا عندما علمت أنها تخرجت في الجامعة بتقدير «ممتاز» ثم واصلت مسيرتها حتى صارت أستاذة جامعية.. وسألتها عن حالها و.. ندمت.. امتلأت عيناها بالدموع.. والدموع نعمة وهبها الله للنساء تعينهن على التنفيس والتعبير العفوي عن المشاعر، بينما نحن الرجال نعاني في مراحل مبكرة في العمر من ارتفاع ضغط الدم وأمراض القلب والأوعية الدموية، لأننا نعتقد أن الرجولة والمرجلة تتطلب كبت مشاعر الحزن.. والدموع عيب. ويبدو أن جيناتي العربية ضعيفة لأنّ دموعي جاهزة في حالات الفرح والحزن، ولا أخفيها عن أحد، ولا أعتبر الرجل الباكي ضعيفًا بل أمينًا مع نفسه وصريحًا في التعبير عن مشاعره.
هناك كيمياء عجيبة بين المدرسين والطلاب، فحتى بعد أن يفارقوا مقاعد الدراسة سنوات يبقى الطلاب شديدي الثقة بمدرسيهم ويصارحونهم في أمور قد لا يبوحون بها لأقرب الناس إليهم. فهناك علاقة هي مزيج من الأمومة والأبوة والصداقة، تجمع بين كل من مارس التدريس وطلابه وطالباته.
المهم أن تلك الأستاذة الجامعية حكت لي كيف أنها صارت عميدة لكلية في جامعة خاصة، ثم جاء مدير جديد للجامعة التي تعمل بها وصار كل همه إحراجها والتقليل من قدراتها أمام بقية الأساتذة لأنها «امرأة»، وكانت حزينة لأنّ العام الدراسي الجديد على الأبواب وتحس بالانقباض لأنها ستعود إلى نفس الجو الأكاديمي المريض.
هنا نسيت أنها «أستاذة» واستعدت دوري كـ «أستاذ» لها، وقلت لها بحزم: لا يوجد شيء في الحياة أهم من كرامتك، فكيف تسمحين لنفسك بالتعرض للمهانة ثم تبقين في نفس المكان الذي تتعرضين فيه لسوء المعاملة؟ لكل إنسان خطوط حمراء، لا يسمح للآخرين بتجاوزها، وباختصار، نصحتها بأن تقدم استقالتها من تلك الجامعة فورًا.
الغريب في الأمر أن أساريرها انشرحت وكأنني أتيتها بحل سحري، إلى درجة أنها وعدتني بإرسال فاكس إلى مدير الجامعة بالاستقالة فطلبت منها أن تترك لي صياغة الرسالة: السيد مدير الجامعة.. يشرفني ويسعدني ألا أعمل معك في موقع واحد، وبهذا أبلغكم باستقالتي من منصبي اعتبارا من يوم أمس.
وأجمل ما في الحكاية أنها كانت مطالبة بالعمل شهرين في الجامعة كما يقضي عقد خدمتها، وحصلت خلال تلك الفترة على عرض مجزٍ من جامعة أخرى محترمة، وهي الآن سعيدة بمنصبها وتزداد سعادة لكونها استقالت من تلك البقالة.

jafabbas19@gmail.com