جعفر عباس

حضرقروي (2)


من حيث الجذور فأنا قروي من بيئة فلاحية/ زراعية، وبالتالي متشبع بأخلاق وسلوكيات القرويين، ولكنني عشت معظم سنوات عمري في مدن كبيرة، وزرت كبريات المدن في أوروبا وآسيا، فصار البعض يحسبني حضريا/ ابن مدن أصيلا، ولكنني أعرف أنني على أحسن الفروض حضرقروي، اي خلطة ما بين حضري وقروي.
كما أنني لا أستطيع تصنيف نفسي بحسب التصنيفات السائدة: تقليدي ومحافظ، أم متحرر ومنفتح؟ ربما لأنني ضد التنميط والتحنيط ووضع الناس والمجتمعات في قوالب وأطر جامدة، وربما أكون «متحفظراً» أي بين متحرر بمعنى أن عقلي حر يتعامل مع الأفكار والثقافات ويقبل منها ما يقنعه، ويرفض ما يخالف ثقافته وتكوينه ومنابعه، وفي ذات الوقت فإنني «محافظ» – وأنا أستخدم الكلمة هنا بمعناها الدارج وليس الاصطلاحي – بمعنى أنني متمسك بقيم وعادات يراها البعض «بالية».
وأكنُّ احتراماً كبيراً للحضارة والثقافة الغربية، ولكن من دون أن أكون أطرش في زفتها، وحقيقة الأمر أنني أعتبر كل الحضارات تراثاً إنسانياً مشتركاً لكنني أتعامل معها بانتقائية: هذا لا يلزمني.. وهذا جانب مشرق وإيجابي.. ولا أحس بالهلع وأنا أقرأ كتاباً يخالف محتواه قناعاتي، وفي نفس الوقت فإنه ما من كتاب أو فكر «أجنبي» يستطيع أن يجعل مني إمّعة وتابعاً عقله في أذنيه.
كل الحذلقة والفذلكة أعلاه تهدف إلى إبعاد شبه التخلف عني، وأنا بصدد التحدث عن أمر يقلقني كثيراً كلما زرت دولة غربية ورأيت فيها الصبية في حال سكر أو انسطال أو جنوح من نوع أو آخر، فأولئك الصبية يعتقدون أنهم يمارسون حرياتهم الفردية – وفي موقف كهذا يكون أخوكم أبو الجعافر أبعد ما يكون عن التحرر – قلبي عليهم لأنهم يخطون نحو الهاوية بسرعة، لكن خوفي الأكبر هو أننا صرنا ننزع نحو الفردية. الأسرة الممتدة بدأت تنكمش، ولم يعد يهمّ الكثيرين منا أمر ابن العم والخالة، بل صار العم أو الخال في أحيان كثيرة لا يهمه من أمر أولاد الأخ والأخت إلا مدى الفائدة المادية التي سيجنيها من التواصل معهم.
وياما سمعنا عن العديد من الرجال الذين ماتوا وتركوا عيالهم يتامى فما كان من الأعمام والأخوال إلا أن تفننوا في «أكل» أموال أولئك اليتامى. حتى الابن صار ينقلب على أبيه في سبيل مكسب مادي أو رفضاً لما يعتبره وصاية، ويمارس الفهلوة ليرث أباه وهو على قيد الحياة (هناك نكتة النذل المتداولة على نطاق واسع عن الشاب الذي قيل له: ماذا يكون موقفك لو سمعت أن أباك مات بسكتة قلبية، فقال: سأحزن لأنني أتمنى موته في حادث سيارة حتى أقبض أيضاً مبلغاً كبيراً من شركة التأمين!!) وكم من أب صرف مهر ابنته على نفسه، وأساء إلى سمعتها وتسبب في عنوستها.
بالمناسبة لا يزعجني كثيراً الشاب العربي الذي يرتدي القرط في أذنه أو يقص شعر رأسه وكأنه يعيش في لوس أنجلس، فهذه مرحلة و«تعدّي»، مجرد هفوات تصاحب مرحلة التمرد، ولكن يزعجني تمرد الناس على الروابط الاجتماعية والاستهتار بالعلاقات الأسرية.
بدأت التدخين وأنا في المرحلة الثانوية ولكنني لم أجد في نفسي الشجاعة للتدخين في مكان عام إلا بعد إكمال دراستي الجامعية.. كان ذلك خوفاً من التعرض للبهدلة على يد أي شخص يكبرني سناً من دون أن يكون بالضرورة من أقربائي، ولسنوات ظللت أدخن في دورات المياه حتى ارتبط التبغ في ذهني بالعفونة، وكان ذلك لأنني كنت مدركاً أن مجتمعي لا يقبل مني التدخين!!

jafabbas19@gmail.com