الصحفي الذي أجبر الرئيس على الاستقالة
الصحفي هو أستاذنا الكبيرة عبد الله عبيد، والرئيس هو المشير جعفر محمد نميري – رحمهما الله – وقد غاب عن دنيانا مساء أمس الأول أستاذنا عبد الله عبيد، غادر عالمنا بعالمه المسحور المليء بالأسرار، العامر بالبطولات والمواقف النبيلة، وترك صدى ضحكته الصادقة الخافتة يتردد في نفوس كل من عرفوه وألفوه وأحبوه.
لم يدّع بطولة رغم أن مواقفه كلها كانت مواقف أبطال، ولم يحارب أحداً بسلاح خفي، ولم يضرب أحداً (تحت الحزام)، كان واضحاً، وعندما تسأله عن موقف ما، يجيبك وهو مقطب الجبين وعلى شفتيه سيجارة وابتسامة – وكنت أعجب!! كيف يجمع بين تلك التقطيبة وتلك الابتسامة في آن – عندما تسأله عن دوافع ذلك الموقف يقول: (بتوارى لي الواضح ما فاضح).
لم يعرف في تاريخ الرئيس الراحل جعفر محمد النميري، أنه تقدم باستقالته من الرئاسة إلا مرة واحدة، أحسب أنها في العام 1972م، استقالة ارتبطت بزيادة سعر السكر من سبعة قروش إلى عشرة – تخيّل – وقد تبع إعلان تلك الزيادة احتجاجات صامتة ومعلنة، حتى أن قيادات وأعضاء الاتحاد الاشتراكي السوداني، أعلنوا احتجاجهم على تلك الزيادات، خاصة وسط النقابات واتحادات العمال والمزارعين.
آنذاك كنا طلاب علم في بداية المرحلة الثانوية، لكننا كنا نعي ما يحدث حولنا، نتأثر به ونؤثر عليه، وظللنا نتأهب للخروج إلى الشوارع محتجين ومتظاهرين وساخطين على الزيادة، وعلى النظام كله، لكن الرئيس النميري عاد إلى ممارسة عمله وسلطاته رئيساً للدولة ولم يرجع عن زيادة الأسعار، ولم تخرج المظاهرات وإن زاد الغليان داخل الصدور.
كثيرون قد لا يعلمون أن الصحفي الكبير الأستاذ عبد الله عبيد، كان وراء استقالة الرئيس نميري – الأولى والأخيرة – وقد عرفت من أستاذنا عبد الله ذلك، ووجدته قد وثقه في كتاب أصدره قبل أعوام وأهداني نسخة منه بخط يده في ديسمبر عام 2010م.. وقد سرد تفاصيل الواقعة في باب حمل عنوان: (تجربتي كصحفي مع رفع أسعار السكر بين حكومتي مايو والإنقاذ).. وذكر أن الرئيس نميري عندما تحرك من مكتبه في القصر الجمهوري إلى مكتبه بالاتحاد الاشتراكي، شاهد جموعاً محتشدة، سأل عن أسباب ذلك التجمع، فقيل له: إنهم الرافضون لزيادة سعر السكر، فغضب غضباً شديداً، وطلب من الأمين العام للاتحاد الاشتراكي الرائد أبو القاسم محمد إبراهيم –مد الله في أيامه- أن يدعو له جميع قيادات قوى التحالف لاجتماع عاجل يبحث أمر الزيادة.
الراحل عبد الله عبيد كان من ضمن تلك القيادات، واختار موقعه في الصف الأول قريباً من (المايكرفون) وأخذ النميري يقدم مباراته للزيادة ويدافع عنها، وكان الاستقبال له فاتراً والتصفيق لم يكن بالحرارة المطلوبة، وفتح الباب للتعليق، ورفع العشرات أصابعهم للتعقيب، وشاهد الرئيس الأستاذ عبد الله عبيد في الصف الأول، فمنحه الفرصة لكن الصحفي الجريء والكاتب الشجاع كان كعادته دائماً معبراً عن قلب الشارع، فهاجم القرار وقال: إن الزيادة سيكون لها أثرها السلبي وأنه سيوفر مناخاً سياسياً للقوى المناوئة للثورة لتتحرك، وطالب الرئيس بإلغاء القرار (الآن) و(فوراً) و(قبل أن يغادر هذه القاعة).
غضب الرئيس نميري غضباً شديداً ولم يعط فرصة للآخرين بل تحدث بانفعال شديد وأعلن عن تقديم استقالته من جميع مناصبه وخرج من الاجتماع ثائراً غاضباً.. مستقيلاً.. وتبعه كل من كان في المنصة، واستطاع بتلك (الحركة الذكية) أن يحول كل الاجتماع إلى مظاهرة صاخبة تهتف بحياته وتطالب بعودته.. وقد عاد بعد فترة غاضباً صامتاً لا يتحدث، لكن الرائد أبو القاسم أعلن على الملأ أن الرئيس قد رجع عن قرار الاستقالة.
رحم الله أستاذنا عبد الله عبيد رحمة واسعة وغفر له وعفا عنه وأسكنه فسيح جناته مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً.. آمين.