متى يكون الثراء حلمًا مستحيلاً
قرأت مؤخرًا في صحيفة خليجية مناشدة من سيدة تواجه مأزقاً مالياً، نجم عن إجرائها مكالمات هاتفية بأكثر من نحو تسعة آلاف دولار في شهر واحد، وبالطبع فإنّ السيدة تلك تتوقع أن يتفاعل القراء ذوو القلوب الرحيمة معها لإخراجها من تلك الورطة، التي قد تحرمها من الخدمة الهاتفية، وتعرضها للجرجرة أمام المحاكم، ويطيب لي أن أنقل تلك المناشدة إلى القراء على أمل أن يهبوا لإقالة عثرة هذه السيدة، وخاصة أنها أجرت المكالمات التي ترتبت عليها تلك الدولارات لغاية نبيلة؛ فقد كانت تحاول المشاركة في برنامج تلفزيوني طرحته شبكة تستقبل المكالمات الهاتفية، لمن يرغب في أن يشارك في سحب على نحو 250 ألف دولار!! وكما نبهت مرارا فإنّ رسوم تلك المكالمات تكون باهظة بالاتفاق بين القناة المعنية وشركات الاتصالات.
وإذا استجاب القراء للمناشدة فإنّ ذلك سيشجعني على الوقوف في الأسواق في أول الصيف المقبل، ماداً يدي: لله يا محسنين.. العيال يريدون قضاء الإجازة في الريفيرا الإيطالية، وينقصني من ميزانية الرحلة فقط أربعون ألف دولار!! وقد يتشجع غيري فيطلب صدقة لإرسال ابنه للحصول على الماجستير من الأرجنتين في وسائل تدريس العلوم الشرعية في المرحلة الابتدائية، أو إرسال زوجته إلى الكوافير في باريس للاستعداد لزواج أختها.
أنا لا أتهكم على تلك المرأة، لأنني مثلها أحلم بالثراء، فعلى الرغم من أنني أعرف أنه لا سبيل أمامي قط لتكوين ثروة بالحلال أو الحرام، فإنني لا أحرم نفسي من حق الحلم، نعم، لا يمكن أن أصبح غنياً بالحلال لأنني موظف أتقاضى أجراً معلوماً، وإذا مات جميع أقاربي في لحظة واحدة وأوصوا بأموالهم لي فإنّ ذلك لن يجعلني غنياً.. ولن أصبح غنياً بالحرام لأنني لست حرامياً ولن أكون.. طيب، قد يقول قائل: وماذا عن اختلاس المال العام الذي يعتبر في شرعة العرب أمراً مباحاً يتدثر أحياناً بالعمولات، وأحياناً أخرى بالهدايا؟ هذا أيضاً غير وارد لأنني لم أعمل قط في وظيفة تتطلب التعامل مع الإنفاق أو المناقصات: مدرس ثم مخرج تلفزيوني ثم مترجم ثم صحفي.
هذه وظائف كل واحدة منها أتعس من الأخرى! وكثيرون يحسدون من يعملون في مجال الإعلام ويحسبون الإعلاميين نجوماً!! فهل يمكن أن يكون أبو الجعافر نجماً؟ هل هناك نجم أسود؟ وإذا كان هناك نجم أسود ألا يعد ذلك فألاً سيئاً؟ وهب أن العمل الصحفي يصنع من الصحفي نجما، فماذا أفعل وجريدة «أخبار الخليج» تستعر من شكلي وتضع قرين مقالاتي صورة معدلة جينيا/وراثيا، ولم يحدث أن زرت البحرين وأرضى أحدهم غروري بالتعرف علي وإلقاء التحية علي، ولكن بالمقابل حدث كثيرا أن موظف جوازات في مطار المنامة قرأ اسمي على جواز السفر، ثم تساءل: أنت أبو الجعافر صاحب الزاوية الغائمة، فأقول «نعم» وأنا مسرور، فتأتي الصفعة: إما جوازك هذا مزور أو الجريدة تنشر صورة شخص آخر شاب مع مقالاتك.
وكتبت على مدى أكثر من خمس سنوات مقالات في صحيفة الوطن السعودية، وكانت لا تنشر صور من يكتبون فيها تفادياً -كما استنتجت- لنشر صورتي، من باب أنه خير للقراء أن يقرأوا لأبي الجعافر من أن يروه، طيب ماذا أفعل؟ هل أدور في الأسواق وأقول لكل من يلاقيني: أنا جعفر بن عباس بن شداد العبسي صاحب الزاوية الغائمة والمنفرجة والحادة والمعكوسة؟ يعني حتى لو افترضنا أن بضعة آلاف من القراء يعرفون اسمي فليس وارداً أن أستثمر تلك المعرفة للحصول على سندويتش طالما أنه ما من أحد سيتعرف على «خلقتي»!!
والشاهد في كل ما سلف هو أن عدوى الإنفاق التفاخري انتقلت من حكوماتنا إلينا فبتنا لا نميز الخبيث من الطيب، في سبيل تحقيق غايات سخيفة، وقد اعترفت بأنني أحلم بالثراء ولكنني أعترف أيضاً بأنني ما كنت أحلم قبل سنوات قليلة بأن أكون قادراً على أكل الدجاج ثلاثة أيام متتالية، أو أن تكون عندي سيارة تسير من دون حاجة إلى مساعدة خارجية بشرية، أو أن أتعرَّف على عشر نكهات للآيس كريم! أو أن يكون عندي تلفزيونا ملونا أبصق عليه ليل نهار!
jafabbas19@gmail.com