جعفر عباس

الخطب الجسيمة


أكن احتراما شديداً للرئيس الكوبي المتقاعد فيدل كاسترو؛ لأنه شديد الكبرياء ولا يعرف الانحناء، (لا يوجد في العالم العربي رئيس متقاعد، فرؤساؤنا يفقدون مناصبهم عادة في انقلابات عسكرية، تنتهي بهم إلى المقابر)، وكان عيب كاسترو الوحيد هو أن خطبه العامة تستغرق نحو خمس ساعات في المتوسط، ويبدو أن مرد ذلك أنه وبحكم جذوره الإسبانية يحمل جينات عربية أندلسية، وقد قيل في الشيوعية التي يعتنقها كاسترو أنها «اشتراكية تنقصها روح الدعابة».
خلال قمة الألفية في مقر الأمم المتحدة بنيويورك أثبت كاسترو أنه ذو حس فكاهي رفيع، فقد كان عليه مثل سائر المشاركين في القمة أن يلقي كلمته في غضون خمس دقائق فقط،ولتنبيه المتكلمين، كانت هناك لمبة، أي مصباح كهربائي يرسل ضوءاً احمر عند انتهاء مهلة الدقائق الخمس (يستهجن البعض تسمية الخليجيين للمصباح الكهربائي بـ «ليت» لأنها تحريف لكلمة «لايت» الإنجليزية ويفوت على هؤلاء أن لمبة تحريف لكلمة «لامب» الإنجليزية). المهم أنه وبمجرد وقوفه أمام المايكرفون أخرج كاسترو منديلاً من جيبه غطى به المصباح، وضجت القاعة بالضحك؛ لأنّ الرجل عبر في صمت بليغ، عن أنه غير معتاد على الأحاديث القصيرة. وكان الزعيم الليبي الهالك معمر القذافي أميناً مع نفسه عندما برر عدم ذهابه إلى قمة الألفية في نيويورك بقوله: هل تريدون مني أن أعبر المحيط الأطلسي لأتكلم لخمس دقائق؟
من الواضح أن زعماءنا يلقون خطبا جسيمة طويلة ومملة، بمناسبة ومن بدون مناسبة، كلها ثاني أوكسيد الكربون؛ لأنهم يحسبون أننا أغبياء لا نفهم بالإشارة، وربما يطيلون علينا إطلالاتهم التلفزيونية المطولة خوفاً من أن ننساهم، وننسى أن الأمطار تنزل ببركاتهم، ويفوت عليهم أن الإفراط في الثرثرة يجعل الواحد منهم مثل الدمية فيربي، التي اخترعها الأمريكان ليتسلى بها الصغار، وهذه الدمية العجيبة تتكلم منذ اللحظة التي تحشر في جوفها البطاريات الجافة وتتكلم لغة اسمها فيربيش كلها الغاز: دودا كاتمارا شيكا بيكا دمدم بونغ دونغ وشيئاً فشيئا تتكلم الانجليزية، ولا تصمت إلا بعد أن يغلبها النعاس، أو تستنفد البطاريات مخزونها من الطاقة.
وخطب القادة «الكلمنجية» كوم وكانت خطب الرئيس السوداني الراحل جعفر نميري كوماً آخر. فقد حبا الله نميري مقدرة فذة على اللغو واللقلقة، وفي الذكرى الأولى لاستيلائه على السلطة أي في مايو (أيار) من عام 1970، دعا الزعيم المصري عبدالناصر والليبي معمر القذافي إلى ملعب كرة القدم في الخرطوم (كان وقتها اشتراكيا على يسار غيفارا، أي قبل 13 سنة من تنصيب نفسه أميراً للمؤمنين ثم الزعم بأنه طار إلى الأراضي المقدسة والتقى بعلي كرم الله وجهه) المهم أنه بدأ يرغي ويزبد على الفاضي لنحو ساعتين حتى كاد الملعب يخلو من الجمهور وعندئذ قال نميري: اصبروا شوية في حاجات حلوة، وكانت تلك الحاجات الحلوة قرارات تأميم ومصادرة شركات وبنوك بالجملة، ثم ارتجل عدة قرارات: مصادرة كوباكبانا.. صحت فيه: عيب يا ريس.. كيف تصادر خمارة لتصبح «حكومية»؟ ولكنه أخرسني عندما أعلن عن مصادرة «مخبز الأمانة» و«وبقالة السعادة الزوجية»، وكشك للجرائد، وتذكر أن هناك تجارا أجانب يعملون في السودان منذ أكثر من قرن فقرر ان يطخهم أيضاً بالاشتراكية بالجملة.
ولأنني لست نكديا فسأقوم بترضية محبي نميري بتعداد أقوال «ماسورة» لخصمه اللدود معمر القذافي: أنا لست ديكتاتورا لأغلق الفيس بوك، لكنني سأعتقل من يدخل عليه.. تظاهروا كما تشاؤون، ولكن لا تخرجوا إلى الشوارع والميادين.. للمرأة حق الترشح سواء أكانت ذكرا أم أنثى.. سأظل في لبيبا إلى أن أموت أو يوافيني الأجل.. أوباما عربي واسمه الحقيقي بوعمامة.

jafabbas19@gmail.com