عبد الجليل سليمان

مُضناك قلبُكَ يا أبي

“أيٌها الموت انتظرني خارج الأرض/ انتظرني في بلادِك، ريثما أنهي حديثا عابرا مع ما تبقٌى من حياتي”. وعلى هذه الأرض عاش أبي نحو (86) سنة، إلى أن صعدت روحه إلى بارئها الاثنين 19 أكتوبر الجاري، قضى (52) منها يعمل بدأب ونشاط – قلّ نظيرهما بين العالمين – في صيانة وحفظ حيوات الناس. وما بين الجُندِّية (الجيش) ووزارة الصحة لم يكن الفرق شاسعاً ولا العمل مُختلفاً، إلاّ بمقدار (عسكرية ومدنية).
أكثر من نصف قرن، ظل أبي يُنجز خدمته (الطويلة) في (الحكومة) موفور الاحترام، مرفوع الهامة، محباً لعملة مجيداً له، فمنذ التحاقه بالسلاح الطبي مطلع 1949م، وإلى تقاعده عن العمل بالمؤسسة العسكرية 1961م، تاريخ التحاقة بوزارة الصحة إلى (2001)، تنقل ما بين مستشفى توريت العسكري (6 سنوات) وحاميتي كسلا والقضارف، إلى قرى جنوب القضارف (الصعيد)، ومستشفى المدينة (الملكي)، لم يفتأ يعمل دونما كلل أو ملل.
لن أستطيع أن أرثيك أبي، وإن أردت ذلك، لأن رثاءك صعب، ولأن بكاءك شاق. أحاول فقط أن أفرّج عن حزني ببضع كلمات، لا تفي مثقال حبة خردل مما كرست حياتك المديدة – يرحمك الله – لإنجازه من أجل أسرتك وأهلك ومجتمعك ووطنك.
كان رحيلك صاعقاً، لكنك مضيت عن دنيانا مستريح الضمير، إذ كنت أفقاً اتسع للحياة ونقيضها – قبل رحيلك وبعده – لم تكن (جملة اعتراضية)، بل كتاب سيرة باذخة، كتاب الحياة كنت، وكنت تفاصيلها الدقيقة، وجملتها (الحاسمة)، كنت أفعالها، وفواصلها، ومرفوعاتها ومنصوباتها، وكنت أقوالها ووجودها (فالقول بدءٌ والكلام وجودُ)،
أي سيرة هي لك؟ أي حياة هي حياتك؟ أي موت هذا الذي دنا منك وتدلى، فأخذ بيدك، ورافقته، أي أوجاع نحصيها؟ وأي دموع نكابدها؟ أي لوعة وحزن يُسربلاننا؟ – لكنك أبتي “باقٍ على الأيّام ذكرُك بيننا ويظلّ يكبَر في العُلى ويزيد”. عشت قوياً، ومضيت إلى سبيلك أقوى، “مُضناك قلبُكَ لم تسايرْ ضعفه حتّى توقَّف خَفْقُهُ المكدودُ”.
لن تستعيدك الكلمات، ولن تخفف عنا عبء رحيلك، لكنها ربما تلهمنا وتنير لنا ما عتم من دروب الحياة، لعلها حين نستجير بها تجعلنا أقوى وأجمل، وتجعلنا أبهى وأفضل. في عليائك الراهنة، كن كما أنت، ولأنك كنت مع الله في حياتك فسوف يكون معك وأنت بين يديه.
اللهم ارحم أبي، واجعل قبره روضةً من رياض الجنّة، اللهم افسح له في قبره مدّ بصره، وافرش قبره من فراش الجنّة، اللهمّ انظر إليه نظرة رضا، فإنّ من تنظر إليه نظرة رضا لا تعذّبه أبداً، اللهمّ آنسه في وحدته وفي وحشته وفي غربته. “إنا لله وإنا إليه راجعون”.