جعفر عباس

أبو الجعافر يمارس التنويم بالكلام


بعد انتصار الثورة الإيرانية قام متظاهرون إيرانيون باقتحام السفارة الأمريكية واحتجزوا عشرات الدبلوماسيين الأمريكان كرهائن، وفي تلك الفترة زار أدموند ماسكي وزير خارجية كارتر أبو ظبي وتم تكليفي من قبل صحيفتي «إمارات نيوز» الإنجليزية و«الاتحاد» العربية بمحاورته، وجاء اليوم الموعود، واصطحبت مصوراً ليسجل للتاريخ والأجيال القادمة كيف أن أبا الجعافر ناظر وحاور وزير الخارجية الأمريكي.
كان الرجل قد قارب الثمانين، وطلب مني في أدب جم أن أطرح أسئلتي، ولأنني تلميذ المدرسة الإعلامية العربية فقد حرصت على أن تعكس أسئلتي عمق ثقافتي بما يؤكد له أنني صحفي خطير: منذ أن تآمرت بلادكم على حكومة الدكتور مصدق ووقوفكم إلى جانب الشاه محمد رضا بهلوي، خسرتم الرأي العام الإيراني وبالتالي فمن البديهي أن يزداد المد المعادي لأمريكا ضراوة في إيران ما بعد الثورة و…. واصلت محاضرتي، إلى أن انتبهت إلى أن معالي الوزير راح في نوم عميق
ما العمل؟ هل أقول له: أصح يا نائم وحد الدائم؟ كان المصور حاضر البديهة وأمطر ماسكي بسيل من الومضات الفلاشية من كاميرا قوية فاستيقظ الرجل، فقررت بعدها أن أجعل أسئلتي قصيرة كي لا ينام مرة أخرى، ونشرت الحوار في اليوم التالي، وجلست انتظر المكالمات بعروض العمل من نيويورك تايمز وواشنطن بوست، ثم اتصل بي رئيس التحرير وقال إن ماسكي نفى كل ما نسبته إليه جملة وتفصيلا، ونلت البراءة من الفبركة لأنني سجلت المقابلة، وحكيت له عن نوم الرجل مع السؤال الأول (المعلقة/ المحاضرة) فقال: زين إنك ما قتلته غما وكمدا، وبعد ذلك بنحو عام زارت رئيسة الوزراء البريطانية مارغريت تاتشر دولة الإمارات وطلب مني محاورتها: بس إياك تنومها. أقسم بالله إذا لم تعد بحوار صحفي متماسك سنشطب السودان من جامعة الدول العربية.
قلت في سري: يا ريت، ثم انطلقت إلى حيث تاتشر، وأنا اتمتم بالأسئلة واضبط مخارج حروف إنجليزيتي، واستقبلني مسؤول بريطاني كان يعرف بمقدمي وأبلغني أسعد خبر في يومي ذاك: أترك أسئلة مكتوبة، وسنوافيك بالأجوبة بعد نحو خمس ساعات. يا ما أنت كريم يا رب، إذ يبدو أن تاتشر أخذت علماً بقدراتي التنويمية، وقررت عدم تعريض اسمها ومركزها للبهدلة، وهكذا تركت لها نحو 25 سؤالاً فأتتني الأجوبة مساء في نحو نصف صفحة.
يا للمصيبة فقد أصدرت تلك المرأة القاسية القلب حكماً على نحو عشرين من أسئلتي بأنها مكررة، وجلست أمط السطور بما يبرر نشر المقابلة على الصفحة الأولى من الجريدة، بكتابة مقدمة مطاطية بلهاء عن القصر الذي كانت تنزل فيه، وعن الزي الذي كانت ترتديه خلال المقابلة الوهمية، ولم أفلح إلا في كتابة عشرة سطور إضافية، وبعد اطلاعه على نص الحوار المبتسر، اقتنع رئيس التحرير بأنني اخترت المهنة الخطأ ومنعني حتى من مقابلة ضيوفي داخل مبنى الصحيفة، كما أصدر تعميماً يقول ما معناه: إذا كان لأي من العاملين بالصحيفة وليد يكثر البكاء ويعاني من الأرق يمكنكم الاستعانة بالأخ جعفر عباس الذي حباه الله موهبة فذة في تنويم خلق الله، ولا داعي لمكافأته على ذلك لأنّ الصحيفة تدفع له راتباً شهرياً نظير ذلك.
وبعدها تأدبت وتعلمت آداب الحوار الصحفي، وحاورت إنديرا غاندي ومستشار ألمانيا هيلموت كول، والرئيس الصومالي سياد بري، وراشد الغنوشي وخالد مشعل وسليم الحص وغيرهم، من دون أن يصاب اي منهم بالملل والنعاس، وليت مقدمي البرامج التلفزيونية الحوارية بالتحديد يتعلمون درسا من تجربتي تلك، وعندنا كثيرون من مدرسة سامي أوكسيد الكربون (سامي حداد)، الذي يخصص لنفسه معظم وقت برامجه الحوارية ليلغو.

jafabbas19@gmail.com