الطاهر ساتي

نهج التجريم ..!!


:: ومن مشاهد الذاكرة، قبل سبع سنوات تقريباً، كنت بمطار الخرطوم قادماً، وكان في صف القادمين رجل أعمال شهير متأبطاً جهاز حاسوبه المحمول، فإستوقفته السلطات وأمرته بكل براءة : (إفتح لاب توبك ده)، فسألهم بدهشة : ( ليه؟، ده جهازي الشخصي)، فكرروا الأمر: ( لازم تفتحوا، عشان نشوف إنت شايل فيهو شنو)، فإزدات دهشته،و طالبهم بتبرير هذا الأمر الغريب.. فأمروا : ( ياعمنا افتح جهازك ده، عندنا تعليمات نفتش اللابتوبات، لأنو في ناس بتجيب بيها صوروأفلام فاضحة)، فضحك الرجل، وفتح الجهاز وفتشوه ولم يجدوا أفلام فاضحة.. ثم غادرهم ( مستغرباً)..!!
:: ولو أخذ الأمر ماخذ الدستور والقانون، لسألهم : هل كل من يحمل حاسوباً شخصياً يظل متهماً أو مداناً حتى يثبت براءته بالتفتيش؟ ..وليس بعيدأ عن النهج التجريمي، لايزال تبرير شرطة المرور في مكافحة تظليل السيارات هو : (في جرائم بتحصل جوة العربات المظللة).. أي كل من يظلل عربته – ما لم يكن قيادياً بالدولة أو دبلوماسياً بسفارة – يظل متهماً بإرتكاب إحدى الجرائم حتى يمتثل لأمر إزالة التظليل..النهج التجريمي، أي كل الشعب متهم – بتمهة ما – حتى يثبتوا براءتهم منها، ليس من أركان العدالة.. فالعدالة تضع حتى المتهم – بتهمة ما- في دائرة البراءة حتى تثبت المحكمة إدانته ..!!
:: وقبل أشهر، قدم المركز القومي لأمراض وجراحة الكلى مقترحا للسلطات بتشريع قانون أو إصدار توجيه بوقف التبرع بالكلى لغير الأقارب.. وكان تبرير المركز منع الإتجار في الأعضاء البشرية..أي، حسب النهج التجريمي للمركز، كل من يتبرع بكليته لغير ذوي القربى فهو (تاجر كلى)..حسن الظن الذي أمرت به مكارم الأخلاق غير متوفر في هذا النهج، بل كل مواطن يتبرع بكليته لإنقاذ حياة مواطن آخر متهم – ببيع كليته – حتى يثبت براءته..وحتى لو كان صديقك أو جارك بحاجة إلى إنسانيتك، فلن تستطيع أن تبرهن لهذا النهج التجريمي بأنك فاعل خير وليس (تاجر كلى) ..!!
:: وكثيرة هي نماذج محاكم التفتيش التي تفتش نوايا الإنسان في بلادنا.. واليوم بالخرطوم، يسري قرار حظر – أصدره معتمد الخرطوم – على سائقي الركشات من العمل بعد الساعة الثانية عشرة ليلاً، بتبرير مكافحة الظواهر السالبة..شرعاً، دين الله الحنيف لم يأمر المعتمد بتفتيش نوايا أصحاب الركشات، ثم اصدار هذا ( العقاب الجماعي)..وقانوناً، ما لم تُعلن رئاسة الجمهورية أو الولاية حالة طوارئ وحظر التجوال الشامل بعد منتصف الليل، ليس من الدستور ولا القانون حظر حركة هذه الفئة المستضعفة..لإدارة شرطة المرور لوائح تنظم مسارات الركشات، ومنها عدم السير في الطرق الرئيسية وعدم عبور الكباري، ولم تحدد اللائحة ساعات العمل، لأن هذا التحديد مخالف للدستور والقانون..!!
:: ذكر معتمد الخرطوم – بعد أسبوع من آداء القسم – انه مزق ثلاثة أحذية خلال أسبوع بالتجوال في أحياء الخرطوم و شوارعها ليتفقد أحوال الناس..ويبدو أن المعتمد اكتفى في ذاك الأسبوع بتفقد أهل الرياض وكافوري والمنشية وغيرهم من أصحاب المركبات الخاصة.. فليمزق المزيد من الأحذية ويواصل التجوال لأحياء الخرطوم الطرفية والمنسية ليقف على آثار قرار حظر عمل الركشات بعد منتصف الليل..فالسواد الأعظم من الفقراء والمساكين بتلك الأحياء هم الذين يستغلون هذه الركشات في حالات طوارئ ما قبل و بعد منتصف الليل بحثاً عن العلاج في المشافي والمراكز والصيدليات.. دعوا البسطاء في حالهم مع ركشاتهم وضنك حياتهم، فليس من العدل أن يتحالف عليهم ( المعتمد و الضنك)..!!