منى ابوزيد

استهبال رسمي ..!

«الحاجة قد تكون أم الاختراع أحياناً لكنها أم الجريمة غالباً» .. الكاتبة!
٭ سُرقت من عبد الله بن مسعود رضي الله عنه دراهم، فماذا فعل؟! .. هل طارد اللص وهو يحمل سلاحه شارعاً بالوقوع في جريمة قتل؟! هل استنفر الجيران فخرجوا في موكب عظيم يتأبطون الأسلحة البيضاء والسوداء؟! .. هل بيت نية الانتقام حاملاً معه بعض الشطة استعداداً للتنكيل باللص الهارب؟! .. حاشا وكلا ..!
بل خاطب رضي الله عنه وأرضاه ربه ومولاه ورب الللص ومولاه قائلاً: «اللهم إن كان محتاجاً فاعف عنه واغنه، وإن لم يكن محتاجاً فاجعلها آخر خطاياه»!
٭ نشرت بعض الصحف المحلية – قبل فترة – حكاية دبلوماسي متقاعد كان يتردد على أحد البنوك، وهو يرتدي حلة أنيقة غالية الثمن، ثم يسرق أجهزة الموبايل الخاصة ببعض الموظفين في أثناء انشغالهم بخدمته، وعندما تم إلقاء القبض عليه اعترف قائلاً من بين دموعه: «إنه يسرق لتوفير ثمن الدواء» .. لكننا لسنا في عهد التابعين وأصحاب الحق – وإن صلحوا – لن يبلغوا ورع ابن مسعود ..!
٭ ولو كنا في أي بلد آخر غير السودان لكان احتمال تصديق رواية «اللص الأنيق» هو صفر في المائة، ولكن الفجوة الهائلة بين مرتب السفير السوداني ومعاش تقاعده تشد من أزر تلك الرواية، وإن كانت لا تُشرعن وقوعها، فما بالك بمن هم دون ذلك ..!
٭ في العالم الأول يحتج الموظف ويثور على خطط الحكومات لرفع سن التقاعد لأن التقاعد عنده راحة واستمتاع بشيخوخة هادئة، بمخصصات معقولة وراتب تقاعدي لا شبهة ظلم أو تعسف في قيمته التي تحفظ النسبة والتناسب بين متطلبات الوظيفة واحتياجات التقاعد وبين طبيعة المهنة ومقدار مقابلها التقاعدي ..!
٭ في فرنسا مثلاً تعطلت حركة المرور – قبل سنوات – وتوقفت الرحلات الجوية في بعض المدن بسبب إضرابات عامة احتجاجاً على خطط الرئيس ساركوزي لرفع سن التقاعد من الستين إلى الثانية والستين بحلول العام 2018م ..!
٭ وبينما كانت حكومتهم تضرب الأمثال بدول غير بعيدة وصلت فيها سن التقاعد لأكثر من ذلك، وتحتج بأنها سوف توفر على خزينة الدولة مبالغ طائلة، كان المحتجون يتقدمون باقتراحات بديلة تتضمن مزيداً من الضرائب على العلاوات الكبيرة والرواتب المرتفعة لتمويل صناديق معاشات التقاعد ..!
٭ ولو حدث ذلك في السودان لتنزَّل القرار على الموظف المسكين الخائف من بعبع المعاش برداً وسلاماً، بسبب طبيعة مرحلة التقاعد التي تعني انقطاعاً مفاجئاً لمصدر دخل ثابت ومتصالح – وإن على مضض وبعد لأي! – مع أبسط ضرورات المعيشة ..!
أوليس هذا هو حال موظف الودولة من السفير إلى الخفير – في هذا السودان – مع مرحلة ما بعد التقاعد؟! .. أوليس مصير المعاشيين في بلادنا هو الهم والنكد بعد الخروج من نار الميري إلى رمضاء المهن البديلة، المرهقة، شحيحة المردود ؟! .. ولئن كان مرتب الموظف لا يسمن فإن راتبه التقاعدي لا ولن يغني من جوع ..!
٭ الإحالة على المعاش في السودان تعني ببساطة أن يتحول أمن الموظف خوفاً، وشبعه جوعاً، واكتفاءه حاجة، وتعففه مذلة بالوقوف على أعتاب السؤال عن حق ما يزال في كم وكيف استلامه قولان ..!
٭ الراتب التقاعدي في السودان «استعباط» حكومي، واستهبال رسمي، ونكتة بايخة!، وإلا فهل يعقل أن تنعدم النسبة والتناسب بين معاش الموظف وراتبه التقاعدي إلى تلك الدرجة من انعدام الحكمة وقساوة التقدير ..؟!