جعفر عباس

بدع مسلمي الهوامش (1)

أكتب هذا المقال في العاشر من محرم الموافق 23 أكتوبر من عام 2015 «ولا تعجب عزيزي القارئ لكونك تقرأه بعد نحو 3 أسابيع من ذلك التاريخ (عاشوراء)، فلأنني كثير التسفار فإنني أعمل قدر جهدي على كتابة عدة مقالات دفعة واحدة، قبل كل سفرة حتى لا تختفي زاويتي هذه ولا ليوم واحد، لأنّ أموري ترتبك وتتخربط في السفر وقد لا أجد مهلة كافية لكتابة المقالات، وكل هذا يؤكد ضعف جيناتي العربية والإفريقية «بَعَد»، لأنّ الانضباط واحترام الالتزامات ليس من شيم العرب والأفارقة، ولهذا تقول بعض المصادر إنني سويدي، وصرت سودانيا بسبب خطأ إداري».
نحتفل بعاشوراء في شمال السودان النوبي بالإكثار من الأكل، بل يتم تشجيع الصغار على تناول أكبر كمية ممكنة من الطعام، ولم نكن ونحن صغار بحاجة إلى مثل ذلك التشجيع، فقد كان الطعام الجيد شحيحاً، وكنا في بقية أيام وليالي السنة نشكو قلة الطعام فنسمع مثلاً سودانياً شائعاً: تأكل زي السوسة والعافية مدسوسة.. أي أنك تأكل بلا توقف مثل السوس، ولكن هيكلك الهزيل لا يكشف أنك أكول «ومن ثم لا أثر للعافية وكمال الصحة في جسمك».
الغريب في الأمر هو أن العائلات كانت تحمل طعامها وتجلس قرب شاطئ النيل، وقبل أن يضع أي واحد لقمة في فمه تقوم الأم أو كبيرة العائلة بإلقاء بعض الطعام في النهر، حتى عندما يتعذر ذهاب العائلة إلى شاطئ النيل كان الطقس الثابت هو رمي فتفوتة طعام في اتجاه النيل قبل البدء في الأكل، ويتخلل كل ذلك سباحة جماعية في النهر، وكانت هناك عادة إشعال النار في حبال غليظة كانت تستخدم في ربط أجزاء الساقية (الناعورة) ويتبارى الصغار والشباب في ضرب بعضهم بعضا بتلك الحبال المشتعلة الأطراف وهم يصيحون «عاشورة فانن تود يوب يوب».. وفي هذه الجملة فإنّ عاشوراء كائن مذكر (تود باللغة النوبية تعني ولداً) وأمه اسمها «فإنه» التي هي فاطمة! أما يوب يوب فهي مفردات عبثية لزوم الدوزنة أي ضبط النغم.
والشاهد هو أن عاشوراء الذي كنا نحتفي به كان طقساً وثنياً من التراث النوبي الذي كان يعتبر النيل ينبوع الخير والخصوبة، ولهذا كان أهلنا يقدمون له اللقمة الأولى من طعامهم «من باب العرفان بالجميل»، وحاول أزهريون من أبناء المنطقة التحدث الى الناس عن عاشوراء وفضل الصوم في شهر محرم والتخلي عن تقديس النيل في تلك الليلة المباركة، ولكن أهلنا اعتبروهم عيال مدارس «متفلسفين».
ومن الطقوس السودانية في الليلة الأخيرة من رمضان تبخير البيوت، أي الطواف بالمبخرة في جميع أركان البيت، والسبب في ذلك هو أن الشياطين ستنطلق بنهاية رمضان، والبخور الذي يتألف من وصفة معينة «كفيلة بمنعها من التسلل إلى البيوت»، وطبعاً هناك أشخاص يزعمون امتلاك قدرات خارقة يتولون تحديد عناصر البخور التي تمنع تسلل الشياطين إلى البيوت، وذات عام قلت لأمي إنه لا خوف من الشيطان الذي يقيم في شق الجدار، بل من ذاك الذي يتسلل إلى النفوس ويقيم داخلها، وبالتالي فإنّ الأولى بالخور الذي يعطي حصانة ومناعة ضد الشيطان هم البشر، فما كان منها إلا أن اعتبرت كلامي هذا دليلاً على أن الشيطان تسلل إلى قلبي، ولفتني ببطانية من مخلفات الجيش الإنجليزي الذي دخل السودان غازياً عام 1899م ووضعت المبخر بين ساقي.. ومن فرط التعرق، فقدت الكثير من سوائل جسمي ولكنها اعتبرت ذلك دليلاً على أن الشيطان خرج من جسمي فأعدت لنا رزاً باللبن وكان ذلك من الوجبات الفاخرة التي لا نتعاطاها إلا في السحور في رمضان.

jafabbas19@gmail.com