جعفر عباس

وسائل الاستهبال الوظيفي (1)

لا سبيل لإنكار أن بيئات العمل في كل مكان ترغم كثيرين على الاستهبال، بحيث يبدون كموظفين وعمال مخلصين ونشطين ومنضبطين، ولكن وكما يعرف الكثيرون، فإن الموظف السيئ الحظ، يعرف بالتجربة ان المدير يأتي مبكرا في اليوم الذي يأتي هو فيه متأخرا، فيقرر البكور في اليوم التالي ليراه المدير في مكتبه جالسا قبل بدء الدوام، ولكن المدير يأتي في ذلك اليوم متأخرا. مدير؟ حر يجي بكيفه ويروح بكيفه، وعلى كل حال فكلما كان رئيس العمل فظاً، تفنن الموظفون في التهرب من أعبائهم نكاية به، أي لـ «تفشيله».
وأعترف بأنني الجأ عند إصابتي بالملل إلى موقع يوتيوب الحافل بصور ولقطات الفيديو بحثاً عن مواد طريفة، وألوذ كثيراً بموقع أكبر موسوعة عرفتها البشرية وهي ويكيبيديا التي لديها معلومات حول كل ما يخطر على بالك.. حتى شعبان عبد الرحيم تجد عنه معلومات في تلك الموسوعة، ولا أفعل ذلك تهرباً من العمل ونكاية برؤسائي، بل لأنني أعتبر الإنترنت أهم عنصر في حياتي واستقي منه المعلومات التي كانت من قبل تتطلب مني شراء الكتب أو زيارة المكتبات أو الاتصال بمعارفي.
وبصدق، فلست ممن يستخدمون غرف الدردشة (الشات) ولا استخدم البريد الإلكتروني إلا للرد على رسائل الأصدقاء والقراء ويكون ذلك في وقتي الخاص، ولكن الكمبيوتر أداة مهمة في الاستهبال في موقع العمل، وحتى لو ضبطك رئيسك المباشر وأنت تستخدم غرفة دردشة، تستطيع أن تقول له إنك «تجمع معلومات عن كومبرادور جديد يجعل سعة الرام 80 ألف سيغابايت بحيث لا يستغرق استخدام نظام أدوبي فوتوشوب أكثر من عشرين بيكسل في السي دي روم من دون الحاجة إلى سوفتوير جديد لنظام السايبر، ما سيوفر على الشركة آلافاً مؤلفة»، طبعاً العبارات السالفة «كلام فارغ» وغير مترابط، ولكن المهم أن فيه مصطلحات تبدو تكنولوجيا، وعلى مسؤوليتي فإن رئيسك المباشر سيصدق أنك شخص بارع في استخدامات الكمبيوتر.
يعني «الكلام الكبير» دائماً مردوده إيجابي، حتى لو كان في مجال غير الكمبيوتر، وقد تشارك في اجتماع ممل وتعرف سلفاً أنه لن يخرج باي قرار ذي جدوى، ولكنك تقول كلاماً من شاكلة: لو عززنا الكفاية الإنتاجية، واتبعنا طريقة تسويق برو آكتيف، بالتأكيد سنكون ماركت ليدرز بشرط أن نكون أقريسيف من دون خوف من الكومبيتيشن.
هذا أيضاً كلام فارغ يردده الاستشاريون الذين ندفع لهم مئات الملايين سنوياً ولا نخرج منهم سوى بمفردات لا تقدم بل تؤخر، يرددها من استقدموا الاستشاريين ليتقاسموا معهم غنيمة الاستشارة، ولكن ذلك الكلام الفارغ قد يجعل منك موظفاً محترماً، فالفهلوة والاستهبال الوظيفي يتطلبان – في العالم العربي – معرفة مفردات إنجليزية عيار 24 قيراط لأن لها مفعول السحر، وليس من الضروري أن تعرف استخدام تلك المفردات على الوجه الصحيح، بل المهم أن ترددها بين الحين والآخر، ويستحسن أن تضيف إليها مفردات جديدة ولو من خارج القاموس.
في ذات عام أوفدت وزارة الإعلام السودانية موظفاً لينهض بالحركة المسرحية والثقافية في أحد الأقاليم، وقوبل صاحبنا بالاستخفاف والتجاهل من كبار المسؤولين في ذلك الإقليم، ووجد نفسه «مزنوقاً» فالمهمة لابد أن تنجز وإلا فإن الوزارة ستبهدله، وصار صاحبنا كما أشرف على نشاط ثقافي يصيح بعصبية «داتش مارين فورس» وفوجئ بأن للعبارة مفعولاً عجيباً، حيث صار الجميع يتهيب سماعها باعتبار أنها «خطيرة» وسارت أموره على الوجه الذي كان ينشده، ولم يكن من حوله من يعرف أن تلك العبارة تعني «مشاة البحرية الهولندية»، علماً بأنه ليس لهولندا مشاة بحرية!

jafabbas19@gmail.com