أنا رضعتكم
:: وفي الخفاء معركة بين بعض الأطباء والسلطات حول الهجرة.. فالسلطات لم تكن تبالي بهجرة الأطباء، قالها علي محمود الوزير السابق بالمالية عندما سألوه عن موارد ما بعد إنفصال الجنوب : ( ح نصدر النبق والدكاترة)، وقالها مامون حميدة وزيرة الصحة بالخرطوم عندما إرتفعت نسبة التصدير : ( ح نجيب غيرهم)..وبمثل هذه التصريحات غير المسؤولة، وبنهج اللامبالاة هذا أوجدوا في نفوس الأطباء إحساس أنهم غير مرغوب فيهم، وكذلك الإحساس بأن الدولة غير مستعدة لإزالة مناخ الهجرة وأسبابها.. فهاجروا أفواجاً تلو الأخرى .. ولا تزال .!!
:: واليوم، بعد أن ظهرت آثار الهجرة في المشافي والجامعات، يبدو أن عقل السلطات شعر ببعض الندم على تطبيقها نظرية اللامبالاة، وقررت حظر الأطباء عن السفر بواسطة وزارة الداخلية.. وبقرار الحظر وخبره، صار حال الأطباء – على صفحات الصحف والمطارات والموانئ – كحال تجار المخدرات والسلاح وكل الذين على (القائمة السوداء)، فحصاً للأوراق ثم منعاً للسفر.. كان حظراً شاملاً لكل من درس الطب، طبيباً بالمشافي كان أو أستاذا بالجامعات.. وبعد أن ألحق حظرهم الضرر بقطاع عريض من الأطباء، خاطبوا وزارة الداخلية بما يُفيد أن قرار الحظر يخص فقط أطباء التخصص المتعاقدين مع وزارة الصحة.. !!
:: وعليه يصبح القرار : التدريب والتخصص على حساب الدولة مقابل العمل في الدولة لثلاث سنوات أو أكثر، أو دفع ما يُقدر بضعف تكاليف التدريب والتخصص لوزارة المالية ثم يهاجر كما يشاء و أينما يشاء، أو (الحظر).. ولايُخفى على أحد، ووزارة الصحة تعلم ذلك، بأن الخيار الثاني – دفع تكاليف التدريب – ليس بعسير على الأطباء..وقالتها وزيرة الدولة بالصحة بالنص : ( نعم، استلمت وزارة الصحة الأموال من الأطباء الراغبين في الهجرة ثم وردتها في خزينة وزارة المالية باعتبارها أموال خاصة بالتدريب)..وردوها وغادروا.. ولا يزال حال الأطباء مع أموال التعويض ووزارة الصحة كالإبن الذي ظل يطيع والدته دائما عندما تُذكًره : ( أنا رضعتك يا جناي، و لازم تسمع كلامي)، فاستاء من التذكير، وجاءها ذات يوم بكرتونة لبن ووضعها أمامها قائلاً : ( هاك الكرتونة دي، وإعتبري البينا إنتهى)..!!
:: وعليه، لا قوائم الحظر ولا تذكيرهم ب ( أنا رضعتك)، أي دفعت تكاليف التدريب، تحول بين الأطباء والهجرة..وبدلاً عن حظر الهجرة، يجب إزالة أسباب الهجرة .. وكل ذو بصر وبصيرة يعرف الأسباب..تدني الراتب لحد العجز بعد اسبوع من الإستلام.. وضعف فرص التطوير والتأهيل لحد أن من يجد فرصة في العمر كمن طاف بين الكواكب دهراً.. ورداءة بئية العمل من حيث المكان والمعدات والوسائل لحد عدم التمييز بين المعامل والمكاتب والعنابر و آثار سوبا بعد الخراب..وضعف الإستيعاب لحد تفريخ الجامعات لحد التكدس بلا تأهيل أو تدريب..تلك هي أسباب هجرة الأطباء، وإزالتها أفضل من الحظر بالتذكير: ( أنا رضعتكم)..ولكن النهج العام – كالعهد به دائما في كل الأزمات – لم يجد حلاً لهذه الأزمة غير الحظر.. وليس في الأمر عجب، فمن شبً على شئ شاب عليه، ومن شاب على شئ مات عليه..!!