جعفر عباس

وسائل الاستهبال الوظيفي (2)


لست من مؤيدي الاستهبال الوظيفي، ولكني أعتقد أنه يكون ضروريًا في ظل «إدارة» متغطرسة تحكم على الموظفين بـ«المظاهر» وتتحين الفرص لمحاسبتهم ومعاقبتهم، وفي جميع أنحاء العالم فإنّ الموظف «البكّاش» يفوز بالترقيات والكاش.
عندما كنت أعمل في مؤسسة الاتحاد للصحافة في دولة الامارات، والتي كانت تصدر عنها جريدة الاتحاد العربية وإمارات نيوز الإنجليزية، ومجلة زهرة الخليج النسائية، ومجلة الأطفال «ماجد»، أتانا لوقت قصير من الزمان، مدير من النوع الذي يتفنن في عكننة الناس بالأوامر والنواهي والزجر والخصم من الرواتب والطرد من الخدمة، وقرر صاحبنا استخدام ساعة إلكترونية يدخل فيها كل صحفي وموظف بطاقة خاصة به عند الدخول والخروج، لمعرفة عدد ساعات عمل كل واحد منا، بمعيار متى دخل الصحفي مبنى المؤسسة ومتى خرج، مع ان طبيعة عمل معظم الصحفيين تتطلب قضاء وقت طويل بعيدا عن المبنى بحثا عن الاخبار أو لإجراء تحقيق أو حوار مع شخص ما.
واضطرت الإدارة إلى استبدال تلك الساعة نحو عشر مرات في الشهر الأول، لأنّ بعض الخبثاء كانوا يحشونها بالرمل فتصاب بخلل في قواها العقلية يجعل السابعة صباحاً، العاشرة ليلاً، وكما ذكرت آنفا فقد كان نظام تسجيل الحضور والانصراف مستهجناً لأنّ طبيعة العمل الصحفي تستوجب الدخول والخروج المتكرر إلى ومن مبنى الصحيفة بل قد يقضي صحفي عشر ساعات خارج المبنى في مهمة صحفية، ويدخل مبنى الجريدة ويغادره خلال ساعة واحدة بعد تسليم المادة التي قضى الساعات العشر في جمعها.
واضطرت الإدارة إلى تعيين ثلاثة حراس أمنيين لمنع العبث بتلك الساعة على مدار ثلاث مناوبات (شفتات)! تخيل يا مؤمن، مئات الآلاف رواتب سنويا لثلاثة حراس كي تعمل ساعة الضبط والمراقبة، والغريب في الأمر أن الساعة نجحت في زيادة إنتاجية الصحفيين، ولكن على الورق فقط، فقد صار معظمنا يسجل موعد حضوره صباحاً ثم يغادر المبنى من دون أن يسجل وقت المغادرة وعند العودة إلى مقر الصحيفة عصراً أو مساء يسجل ساعة الانصراف، وهكذا صار عدد ساعات عمل كثيرين منا نحو 11 ساعة يومياً (بحسب بطاقات التسجيل)، في حين أن ساعات العمل الفعلية لم تكن تتجاوز عند بعضهم 4 ساعات في اليوم.
وقد أكّدت دراسات أجراها مختصون في علم الإدارة (هي فن أكثر منها علماً لأنّ هناك إداريين موهوبين لم يدرسوا الإدارة كعلم ومع هذا ينجحون في التعامل مع البشر فيرتفع الأداء ومعه الإنتاجية).. المهم أكّدت تلك الدراسات أن المظهر مهم في بيئة العمل، ولهذا تجد موظفين في منتهى الأناقة ويستخدمون عطوراً فواحة ويحملون حقائب لامعة، ولكن أداءهم دون الصفر، ومع هذا ينالون الترقيات والعلاوات الاستثنائية، بينما يكون هناك موظف مجتهد ومخلص ولا وقت له للتأنق فيكون نصيبه الإهمال والتجاهل لأنه «مبهدل».
ولكن هناك نوعاً من البهدلة ضرورية للاستهبال الوظيفي وهي أن تجعل مكتبك تورا بورا، أي تضع أكواماً من الورق والملفات على الطاولة أو حتى على الأرض بما يوحي بأنك «غرقان» في الشغل، وإذا كنت تعلم أن أحد رؤسائك سيدخل عليك طلباً لمستند معين فادفن ذلك المستند في أحد التلال الورقية.. وبمجرد دخول صاحبنا، قم بعملية التنقيب وأخرج المستند بسرعة حتى يأخذ الانطباع بأن ذهنك مرتب رغم أن مكتبك مبهدل.
واعترف بأن مكتبي أينما عملت يكون نموذجا للبهدلة، لأنني من النوع الذي يحتفظ بالقصاصات والمستندات، ولا أتخلص منها إلا بعد انتهاء صلاحيتها بسنوات، وعندما كنت أعمل في شركة الاتصالات القطرية أعطوني سكرتيرة، وفي يومها الأول دخلت مكتبي ووجدته مرتبا وكأنما لم يستخدمه شخص من قبل، فقلت لها: يا بنت الناس لو لمست شيء على طاولتي بعد اليوم فابحثي لنفسك عن موقع عمل آخر.

jafabbas19@gmail.com