ضياء الدين بلال

(اضبط، إنه مرتد)!

وجدتُّه أمس، بمبنى الصحيفة، مع المحرر العام، الصديق، عبد الحميد عوض، وعرفت أنه إمام المسجد المُتهم بالرِّدَّة، جاء معترضاً على خبر نُشِرَ بالصفحة الأولى، عن اختفائه في ظروف غامضة.
رجل سوداني هادئ، يتحدث بثقة ولباقة، تغلب عليه روح التحدي، وفي عينيه غضب رزين. قلتُ له: هل أنت متصوف؟ قال لي بحماس: (تجاني والحمد لله).
حدَّثني عن قصته بطريقة سرد خالية من الانفعال والادعاء، وكيف أصبح مُتَّهماً بالرِّدَّة، وهو إمام مسجدٍ يُؤدِّي كل فروضه الدينية، ويُكثر من النوافل، وجاء قبل أشهر من العمرة.
-2-
الخلاف الذي بسببه تم اتهام “الدرديري” بالرِّدَّة، خلافٌ قديمٌ ومتجددٌ، ينشب عادةً بين الصوفية والسلفيين، حول التوسل بالأنبياء والصالحين، وهل كان سجود الملائكة لآدم سجود عبادة أم سجود احترام وتقدير؟
مثل هذه الخلافات، موجودةٌ في كثير من الكُتُب القديمة والحديثة، واستمعت إليها كثيراً في مُناظرات ونقاشات في الجامعات والمساجد، وبعض الساحات العامة.
لا أودُّ أن أعلق على حيثيَّات القضية، فهي لا تزال في مرحلة التقاضي، وسيُنطق فيها الحكمُ خلال أيام؛ لكنني تذكرتُ وقائع مُحاكمة مُشابهة، في عام 1999 قمت بمتابعة ورصد تفاصيلها على حلقات مطولة بصحيفة (البيان) طيبة الذكر.
-3-
شابٌ ثلاثينيٌّ، تلقَّى تعليمه الجامعي بالمغرب، وعاد لمدينته بالجزيرة، بعد إكمال الدراسة، ودرج على الدخول في مناقشات مع بعض أبناء الحي عن علاقة الدين بالدولة.
قضية فكرية وسياسية، ناقشت مفهوم تشكل المجال السياسي في الإسلام، وكيفية تعامل قائد دولة المسلمين محمد عليه أفضل الصلاة والسلام مع الواقع السياسي الموضوعي آنذاك، وما هو ظرفي وما هو مقدس.
مع تصاعد النقاش، وتعصُّب كل طرف لرأيه، قرَّرَ البعض نقل الخلاف إلى دوائر القضاء، باتهام الشاب بالرِّدَّة عن الإسلام.
تصوروا ماذا حدث؟!
-4-
وجَّهت محكمة الموضوع اتهاماً تحت المادة (126) الرِّدَّة عن الإسلام من القانون الجنائي لعام 1991، وأحالت القضية للمحكمة العامة.
طوال أيام المُحاكمة، كانت المظاهرات تخرج من الخلاوي والمساجد إلى ساحة المحكمة، تُطالب بإعدام الشاب وتحمل له نعشاً افتراضياً!
المحكمة العامة قامت بشطب القضية، واعتبرتها قضيَّةً فكريَّةً سياسيَّةً خاضعةً للأخذ والرد، ولا يترتَّب عليها تجاوز جنائي.
تم استئناف القضية من قِبَلِ أطراف النزاع في الحق العام بمحكمة الاستئناف، كذلك محكمة الاستئناف قامت بشطبها بذات تلك الحيثيَّات.
المفاجأة كانت حينما رفعت القضية للمحكمة العليا، فإذا بها تؤيد محكمة الموضوع في الاتهام والإدانة بالرِّدَّة وتأمر بالقبض على الشاب!
-5-
في تلك الأيام، علمت منظمات حقوق الإنسان العالمية بالقضية (قاعدة على الهبشة)، وأصبحت تُروِّجُ لانتهاكات حقوق الاعتقاد والتفكير في السودان، وتم تداول اسم الشاب في 13 تقريراً دولياً، وخلال ثلاثة أشهر تم الترتيب له للخروج من السودان إلى إحدى الدول الأوروبية!
-6-
قضية أبرار أو مريم ليست ببعيدة..
أبرار الكافرة المُرتدَّة المُستحقَّة للإعدام، وفقاً للقانون الجنائي لعام 1991، على منطوق المادة 126 تحوَّلت في عالم الصورة وفضاء الأسافير، إلى بطلةٍ استثنائيةٍ، تدافع عن قناعتها إلى حد الموت.
تبتسم في مواجهة حكم الإعدام.
امرأة حبلى لزوج مشلول، لها طفل صغير تلتقطه الكاميرا وهو يبكي، يجتمع عليها القضاة ورجال الدين، حتى تُغيِّرَ معتقدها الديني، وهي ترفض كل ذلك، ولو كان جزاؤها الموت شنقاً!
صورة درامية دعائية، تعجز عن إنتاجها شركات هوليوود.
مع الأيام تكشَّف الأمر. الفتاة التي تُعاني اختلالاً نفسياً وعدمَ اتزان، جعلت منها الأخطاء الكبيرة والتقديرات الصغيرة بطلةً للعالم المسيحي!
بالقطع، لن تنسوا أن الحكومة السودانية اضطرت للتخلص من عبئها بسيناريو مرتبك وساذج، ليستقبلها البابا في الفاتيكان، وهي تهبط من طائرة خاصة، برفقة نائب وزيرة الخارجية الإيطالية!
-7-
كان المتوقَّعُ من الأجهزة العدلية والقضائية، أن تستفيد من تلك التجارب، وأن تُجنِّبَ سمعة البلاد (المرمطة) وقلَّة الشأن في قضايا خاسرة!
الحديث هنا ليس عن مادة الرِّدَّة في القانون الجنائي لعام 1991. هنالك من أهل الشأن من هم أفضل مني لتناول الموضوع بأبعاده المُتنوِّعة والمُتعدِّدَة وأدعوهم لذلك عبر صفحات (السوداني).
الحديث يجب أن يكون عن تكييف هذه المادة، وتلافي التقديرات الخاطئة لوكلاء نيابات، الذين قد يكون بعضهم من محدودي التجربة والمعرفة، لكنَّهم بارعون في صناعة الأزمات!
إلى أن تتم مراجعة النص القانوني للمادة 126، لماذا لا يُصدر وزير العدل لوائح منظمة لتعامل النيابات في القضايا المتعلقة بالمعتقدات الدينية منها قضية الرِّدَّة؟!
مثلاً، بإمكان وزير العدل أن يوجه بأن لا تُنظر تلك القضايا إلا من قِبَلِ كبار المستشارين من ذوي الخبرة والعلم، مع الاستعانة بجهات للفتوى والمراجعة الدينية.
ترك قضية الرِّدَّة لصغار المستشارين، وصغار القضاة، سيجرُّ علينا في كل مرة قضيةً جديدةً، تُصبح مادةً للتندر الإعلامي، ومنفذاً سهلاً لكيد الكائدين.