قل: الحمد لله أنا أحسن حالا من غيري

كتبت أكثر من مرة عن ولعي بقناتي ديسكفري وناشونال جيوغرافيك الفضائيتين، ليس فقط لأنهما خاليتان من الهشك بشك، ولكن لأنهما تقدمان غذاء للعقل والفكر بما تضخانه من مادة علمية موثقة تعرض بطرق شيقة، وقبل يومين كنت أشاهد في ديسكفري فيلماً تسجيلياً عن الإسكيمو ذلك الشعب الذي يعيش في مناطق في القطب الشمالي، في أكواخ يكسوها الجليد على مدار السنة وزادهم الوحيد هو ما يصطادونه من حيوانات بحرية، وشاهدت صبياً من الإسكيمو يمسك بندقية ويصوبها نحو عجل بحر ويطخه في رأسه فتقيم العائلة وليمة كبيرة لأنها لم تكن قد ذاقت طعاماً حقيقياً طوال أربعة أيام.
ورأيت في أيام أخرى كيف يعاني سكان صحارى مثل كلهاري في جنوب إفريقيا، وجماعة الأبورجينيز، وهم أهل أستراليا الأصليون الذين ما زالوا يعيشون على صيد السحالي ويأكلون كل شيء: كلاب وضفادع وديدان وتماسيح.
وتعود بي الذاكرة إلى سنوات الطفولة حيث لم تكن هناك كهرباء، وكنا نشرب الماء المخصص للزراعة من نفس الجدول الذي تشرب منه بهائمنا، ولا نحس بالغثيان ولا نأبه لـ«الديدان»، لأنّ أجهزتنا الهضمية كانت مصفحة، ويا ويل الباكتيريا التي تدخلها.
وكانت الصيحات الثكلى تتعالى كل مساء عندما يلسع ويلدغ ثعبان أو عقرب شخصاً ما ولا علاج عندنا لمثل تلك الحالات سوى عصير الليمون المركز، أو فصد موقع اللدغ واللسع، كي يخرج السم مع الدم النازف، ومع هذا كنا نأكل ثلاث وجبات ونشرب الشاي ولدينا تمر كثير.
كانت طفولتي بائسة بمقاييس «العصر الراهن» مقارنة بحال غيري من الأطفال في بلدان أخرى كانت أقل فقراً من بلدي، ولكن كلما شاهدت معاناة سكان الصحاري والأصقاع الجليدية أدرك أنني نعمت بطفولة مرفهة، وأجلس في هذه اللحظة أمام كمبيوتر وأمامي في المكتب تلفزيون بلازما، وعلى يميني آيفون وعلى يساري آيباد، ومكيف الهواء يتلاعب بما تبقى من شعر رأسي الفضي، ولا تكاد تمر ساعة دون أن أقول في سري: سبحان الله الذي انتقل بعبده من عصر الفحم والحطب، إلى عصر فيسبوك ويوتيوب وواتساب (بالمناسبة جرب مثلي تعطيل واتساب نهائيا وستحس براحة غير عادية، لأنك لن تتلقى الرسائل السخيفة والأخبار المفبركة)، وأتساءل: هل أنا المرتدي الملابس الأفرنجية نفس الـ «جعفر» الذي كان يرعى عنزات العائلة ويا ما اضطر إلى مساعدة العديد من العنزات على الولادة؟ يعني كنت – عند اللزوم، داية/قابلة للغنم، وكنت ماهراً في حلب الماعز.
دعوني أتباهى أمامكم بخصلة حباني الله بها وهي «الشكر والحمد»، بمعنى أنه لا يغيب عن بالي قط أنني لم اكن أحلم يوماً ما بأن تكون عندي سيارة خاصة، بل وحتى في مرحلة الشباب كان ركوب التاكسي «بدلا من الباص» حلماً صعب المنال، وقضيت المرحلة الجامعية بثلاثة قمصان وبنطلونين كنت أتولى غسلهما وكيهما بنفسي. وإلى يومنا هذا فإنني «مكوجي» محترف، وكنت عندما كان عيالي في المدارس إذا اكتشفت في ساعة متأخرة من ذات مساء أن الزي المدرسي لولدي هذا أو بنتي تلك، غير مكوي، فقد كنت وبلا تردد أتناول المكواة وأجهز له/ لها الملابس المدرسية في أفضل حال.
وكافحت وأنا النوبي الأعجمي حتى تعلمت اللغة العربية وكتبت بها قصائد «قمة في الركاكة» ولكن وبالعناد والمثابرة هأنذا أكتب مقالاً يومياً بالعربية في صحيفة عربية، وكنت أفرح في بداية الأمر كلما رأيت اسمي مكتوباً في صحيفة أو كلما استوقفني شخص وسألني إن كنت «أبو الجعافر»، ولكنني لم أترك تلك الأمور «تطلع في رأسي» بأن أذكر نفسي: رحم الله امرءا عرف قدر نفسه.

Exit mobile version