د. ياسر محجوب الحسين

رفع الدعم.. تجريب المجرّب


بعثت الحكومة في الخرطوم وزير المالية ليطلق بالون اختبار في البرلمان بإبداء عزمها لرفع الدعم عن السلع الأساسية مثل القمح والمحروقات والكهرباء.. وذلك في إطار بيان تقديم موازنة العام القادم 2016.
وبدا المشهد مرتبكا تماما ففي حين قال رئيس اتحاد عمال السودان القريب من الحكومة، إن وزير المالية أكد للاتحاد عدم وجود أي اتجاه جديد لرفع الدعم عن السلع الأساسية، وإن الموازنة الجديدة لا تتضمن رفع الدعم، قال نائب رئيس الجمهورية السابق والقيادي بالحزب الحاكم إنه يؤيد مقترح الوزير بتحرير كل السلع الاستهلاكية بالبلاد، وأكد بأن الوقت آن لرفع الدعم عن المحروقات والكهرباء والقمح.
وشكا الوزير لطوب الأرض عن الوضع الاقتصادي المتدهور بشكل مخيف.. وبدلا من أن يعترف بفشل حكومته في إصلاح حال الاقتصاد، طفق يلقي باللائمة على الشعب واصفا إياه بأنه “مستهلك وعاطل عن العمل”.. في حين أن الحكومة السبعينية (70 وزيرا) هي أكبر مستهلك للدخل القومي الشحيح، ومع هذه الحكومة المركزية هناك جيوش جرارة من الوزراء وشاغلي المناصب الدستورية في حكومات ولايات البلاد العديدة التي تزيد باستمرار بمتوالية هندسية في إطار بذخ سياسي لم يعرف السودان له مثيلا.. ليس هذا فحسب، بل إن الفساد الرسمي المستشري يقضم أضعافا مضاعفة مما تقضمه مخصصات ورواتب الوزراء والمسؤولين، ويعترف مسؤولون كبار بوزارة العدل بأن الحصانات التي يتدثر بها المسؤولون هي المعوق الرئيس لمحاربة الفساد.
وفي ذات الوقت الذي تفشل فيه الدولة في ترشيد الإنفاق الحكومي، وتقليل المصروفات الإدارية، تفشل في توفير مدخلات الإنتاج بل تفرض الضرائب الباهظة والإتاوات على صغار المنتجين من عامة الشعب فحتى البلدان الصناعية تدعم المنتجين بشكل غير مباشر عن طريق تسهيلات في الضرائب والقروض وتحديث البنية التحتية. لكن أن يأتي وزير المالية ليرمي صغار المنتجين بداء الحكومة ويتهمهم بالاستهلاك والتعطّل عن العمل فتلك مصيبة كبيرة.
يقول مدير بنك الطعام المسؤول عن محاربة الفقر والجوع، إن هناك (6) ملايين طفل يعانون من سوء التغذية، و(35) ألف تلميذ لا يتناولون وجبة الإفطار في العاصمة الخرطوم وحدها وأن 80% من طالبات السكن الداخلي لا يتناولن وجبة العشاء، مؤكداً أن الفقر يتصاعد بصورة محزنة.
ولربما نسيت الحكومة تلك الأزمة التي كادت أن تعصف بها عصفا في سبتمبر 2013 عندما قررت رفع الدعم عن تلك السلع الضرورية، فاشتعلت الخرطوم ومدن أخرى بمظاهرات ومواجهات عنيفة بين قوات الأمن ومتظاهرين أدت إلى مقتل أكثر من 200 شخص وفق منظمة العفو الدولية، مما أدى لتراجع سريع عن قرار رفع الدعم.. واليوم تريد الحكومة اختبار المختبر وتجريب المجرب والتفسير الوحيد لذلك أن كل الخيارات أمامها معدومة في ظل إصرارها على عدم طرح برنامج إصلاح اقتصادي جاد تبدأ فيه بنفسها. ثم تقيم شبكات ضمان اجتماعية للفقراء وأصحاب الدخل المحدود مثلما فعلت دول مثل تركيا وإندونيسيا والمكسيك، فهي أقل تكلفة بكثير من دعم أسعار السلع الاستهلاكية بشكل يشمل الغني والفقير.
ومنذ انفصال جنوب السودان في العام 2011 يعاني الاقتصاد السوداني من ارتفاع معدلات التضخم وانخفاض قيمة العملة المحلية.. وتستورد البلاد 2.5 مليون طن من القمح سنويا وبلغ حجم الدعم للقمح ثلاثة مليارات جنيه سوداني أي ما يعادل 500 مليون دولار.
بالضرورة ستضرب الآثار السلبية لرفع الدعم الصناعات المعطوبة أصلا وسيقلل من قدرتها التنافسية بسبب ارتفاع تكلفة الإنتاج، كما سيؤدي إلى رفع أسعار المدخلات ذات العلاقة بالطاقة فضلا عن زيادة كلفة المشاريع.. ومن باب أولى كذلك زيادة حدة التضخم. المشكلة أن رفع الدعم الجزئي في عامي 2011 و2012م لم يزل العجز الموجود.
وما من شك أن الدعم إجراء اقتصادي مؤقت يُزال وفقا لخطط تسندها إرادة سياسية قوية.. ومنذ عقود عديدة تنفق غالبية الدول العربية على اختلاف نظمها السياسية عشرات المليارات من الدولارات لدعم السلع الاستهلاكية والخدمات الأساسية، وإذا كانت الدول الغنية تسد هذا العجز من عائدات النفط، فإن الدول الأخرى تقوم بتمويله عن طريق الاقتراض أو زيادة الضرائب والرسوم التي تصيب أيضًا قطاعات إنتاجية ذات جدوى اقتصادية بالضرر البليغ.
سيكون الشعب السوداني مستعدا للتضحية والقبول برفع الدعم لو تمكن من الثقة في الحكومة وإجراءاتها أو لو تلمس لديها عزماً صادقاً على الإصلاح من خلال البدء بمكافحة الفساد بكافة أشكاله من رشوة ومحسوبية وفساد إداري.. من المعيب أن دولة مثل السودان لم تستطع في ظل العبث السياسي استثمار مواردها الطبيعية وتسخير قدراتها وثرواتها للنهضة والتقدم وتحقيق الرفاء الاجتماعي والاقتصادي لشعبها الصابر.