منى ابوزيد

كوارث منهجية ..!

« لقد فعلت المسيحية الكثير للحب عندما جعلت منه خطيئة» .. أناتول فرانس» ..!
٭ هذه الأيام يتجرع كل مسلم قاريء للصحف السودانية زجاجة زيت خروع كاملة على الريق – على طريقة ماركيز! – وهو يقرأ في أخبار مفزعة تتصدر عناوينها عن محاكمة عدد مقدر من المتهمين بالردة في السودان .. لا يمكن – بالطبع – قراءة تفاصيل هذه الأخبار بمعزل عن ظاهرة التفاخر بالإلحاد، التي غزت مجتمعات الطلبة في الجامعات، فكما يتبع بعضهم الموضة بقصة شعره، يفاخر بعضهم الآخر بإدعاء الإلحاد واستفزاز المجادلين..!
٭ أعتقد أن السلطة الدينية في بلادنا قد فعلت الكثير للتبشير والمبشرين وللإلحاد والملحدين، عندما جعلت الحكمة والتعقل في مواجهة الاستفزاز الديني والإساءات الممنهجة إلى الإسلام خطيئة .. هي إحدى مظاهر أزمة التَسلُّف التي تمكنت من فكر الإسلام السياسي في السودان، فباتت أشواقه السياسية ووعوده الانتخابية أقرب إلى الثيوقراطية القائمة على دينية الدولة، منها إلى القناعة بصلاح الحكم الديموقراطي المبني على مبدأ الدولة المدنية ذات المرجعية الإسلامية .. لذلك يبقى التجريب دوماً هو الحل .!
٭ شواهد كثيرة تؤكد تخندق فكر الإخوان المسلمين في السودان مع السلفيين في ذات الأخدود، يكفي أن معظم رموزه الفكرية هم من ورثة الفكر الجهادي الذي قاد دفة حرب الجنوب، قبل أن يستعصم بموقفه المتطرف من جهود الوحدة والسلام لأسباب أيدولوجية – وفي بعض الروايات شخصيَّة – بحتة ..!
الإعلان عن انفصال جنوب السودان كان مسوغاً كافياً في رأي هؤلاء وأولئك لإطلاق دعاوى الهوية العربية وسيادة حكم الشريعة الإسلامية، لكن الخطير بشأن هذه النبرة، هو أنها باتت لا تطغى على الخطاب الديني لأئمة المساجد ودعاة المنابر فحسب، بل أنها أصبحت على لسان الحكومة نفسها، بعد أن تسللت نبرة (التَسلُّف) تلك إلى نخاع الخطاب السياسي لحكومة جمهورية السودان ..!
٭ كانت السلطات تبارك دعوات الأسلمة والتسليف والإقصاء والتعريب التي صاحبت اجتهادات المنادين بفصل الجنوب، وبعد تأليب الشعب على الوحدة كخيار – كان ما يزال قائماً وقتها – وتَحقُقْ الانفصال بنشوء الدولة الوليدة، تعاظمتْ دعوات التعريب وعلت أصوات التطرف الديني بمباركة الحكومة التي أخطأت جداً عندما حادت عن منهج الوسطية في مواقفها من بعض مصائب الإسلام السياسي ..!
٭ بينما الشريعة نفسها مفهوم متغير محفوف بإشكالات التفاسير وثباتها كحكم ملزم مشروط بإجماع أجيال بأكملها على مذهب فقهي بعينه، والإجماع الفقهي على مذهب موحد شبه مستحيل، وعليه فإن ما يشرع وينفذ هو الإرادة السياسية للدولة وليس الشريعة الإسلامية ..!
٭ مظاهر ردة بعض المسلمين والتي من صورها إلحاد بعض الشباب هي الوجه الآخر للتطرف الديني والتدين الشكلاني، ومظاهر التجهيل المتعصب، ودعاوى التكفير الأعمى .. ولعل أول وأولى تدابير محاربة الظاهرة تحرير الخطاب الديني في السودان من سطوة الاستعلاء الفكري والعنف اللفظي والاستعداء غير المبرر .. لا بد من رفع شعار «هناك فرق» في وجه الكثير من المسلّمات الخاطئة .. فهل من مُذَّكر؟!