جعفر عباس

مقال ربحت منه ثروة


كان مقالي هنا يوم أمس بعنوان “أمثال شعبية درر”، وخضت في هذا المجال، وزادي منه سماعي، وسبق لي الكتابة مراراً عن أمثال و”حكم” شعبية، ترسخ مفاهيم سالبة ومع هذا تجد رواجاً فقط لكونها مسجوعة ومنغومة: أسأل مجرب ولا تسأل طبيب (وهذا كلام لا يصدر عن حبيب)، وجلداً ما جلدك جره فوقو الشوك (لا تتردد في إيذاء الآخرين إذا كان ذلك في صالحك)، (بلداً ما بلدك أمشى فيهو عريان)، أنس عادات وتقاليد أهلك عندما تكون بعيداً عنهم، وهذا ما يفعله كثيرون من جماعتنا بمجرد وصولهم إلى بلد أجنبي، بل ورأيت أكثر من مرة خلال السفر جواً إلى بلدان أوربية فتيات محجبات يدخلن دورة المياه في الطائرة ويخرجن منها وهن “حاجة تانية خالص”: محزق وملزق، وشعر ناعم كالحنان وطويل كنظرات المتطفلين، والشبان العرب يتحولون الى قرود في شوارع المدن الأوربية بأزياء سخيفة، وقد رصدت كاميرا شاباً عربياً أبلهاً، يقف مصلياً في مسجد في لندن، وهو يرتدي تي شيرت عليه عبارة تفيد بأنه مثلي جنسياً، واعترف المسكين بأنه ماحي في اللغة الإنجليزية واشترى القميص الشيرت وهو لا يدري معنى “هاي، آي آم قاي Hey, I’m gay”).
إعجابي بالأمثال الشعبية نجم عن إعجابي بمنتجات أساتذة أفذاذ في معهد الدراسات السودانية بجامعة الخرطوم، أذكر منهم سيد حريز وعبد الرحيم نصر وعبد الله علي إبراهيم والطيب محمد الطيب، وكان مقالي ليوم أمس خير مكافأة لي على شغفي بالتراث الشعبي لبلادي، فما أن اطلع عليه صديق، حتى وافاني بأجمل هدية تلقيتها خلال العام 2015 الذي كاد ينصرم بالصرمة القديمة، فقد أهداني المجلدات الثلاثة لـ”معجم الأمثال السودانية المقارنة” للدكتور سمير محمد عبيد نُقُد، مصحوبة بعرض أنيق وحسن السبك للدكتور الباحث المؤرخ أحمد إبراهيم أبو شوك، الذي يجمعني به النضال المشترك لتكوين النفس في دولة قطر.
وبهذا أصبح عدد القواميس/ المعاجم التي أملكها 32، ففي عصر ما قبل الإنترنت لم يكن من مناص لأكل العيش من الترجمة، إلا باقتناء قواميس في معظم مجالات العلوم والمعارف، ومن عجائب الأمور إن شخصاً مثلي ما زال يستخدم أصابعه في عمليات الجمع والطرح، لديه قواميس في الرياضيات، والمحاسبة، والهندسة، والكيمياء، والطب، والفيزياء والبشاميل.
ولكن معجم الأمثال السودانية لسمير نقد جعلني أدرك أنه لا يجوز لشخص مثلي الكتابة في أمر الأمثال والحكم الشعبية، إلا كمعجب بمعانيها الظاهرة وبلاغياتها، وأن الغناء فعلاً “حلو في خشم سيدو”، وسيد الغناء هنا هو سمير حفيد نقد (في اللهجة الدنقلاوية من اللغة النوبية نقد تعني “عبد” تماماً كـ”أوشي” في اللهجة المحسية، ولكن بنفس المعنى المراد من “عبده” في العامية العربية كما في فيفي عبده – لا مؤاخذة).
وارتفعت معنوياتي عندما قرأت في عرض أبو شوك لمعجم سمير نقد أن ابن عبد ربه صاحب كتاب “العقد الفريد” سرق ما قلته عن الأمثال في مقالي ليوم أمس، ولكنني اعترف بأنه تفوق علي من حيث دقة العبارة وجزالة اللغة، حيث يقول الأمثال إنها: “وشي الكلام، وجوهر اللفظ، وحلي المعاني، التي تخيرتها العرب، وقدمتها العجم، ونطق بها في كل مكان، وعلى كل لسان، فهي أبقى من الشعر، وأشرف من الخطابة، لم يسر شيء مسيرها، ولا عمَّ عمومها، حتى قيل: أسير من مثل”. رحم الله الرجل المتوفى عام 939م!!