منى عبد الفتاح : سدّ النهضة… معايير القوة والضعف
تُبنى معايير قوة الدولة على عدة عوامل تقليدية وحديثة، أما التقليدية فهي التي تتميز بالثبات النسبي، مثل المساحة والحدود والموقع والسكان. لكن هذه العوامل لم تعد المؤثر الرئيس على قوة الدولة، حيث دخلت العوامل الحديثة، وهي العوامل المتجددة، حسب ما يفرضه الواقع الدولي، والمرتبطة بالثورة العلمية والتقنية المتطورة باستمرار. وبالإمكان تغير أنماط القوة من زمان إلى آخر، خصوصاً مع حقيقة التحديات التي تؤمن بأنّ الخيار ليس للدولة وحدها، في أن تثبت في مكانتها قوة دولية، أو تتزلزل قوتها إلى ضعفٍ واضح، وإنّما تحكمها الظروف الدولية المحيطة، ويحكمها امتلاكها عوامل القوة الحديثة علمياً وتكنولوجياً وإعلامياً، ولا تنتعش هذه العوامل إلّا في ظل نظام سياسي مستقر وفاعل.
وفي أزمة سدّ النهضة الإفريقي الذي انتهت مفاوضات بشأنه، أخيراً، في الخرطوم، إلى تفاؤلٍ مشوبٍ بالحذر، نتيجة أزماته العديدة، والتي لم تبدأ بالخلافات بين المكتبين الاستشاريين، الفرنسي والهولندي، المعنيين بإعداد وتنفيذ دراسات السد، ولا تنتهي بقيادات الدول الثلاث؛ أثيوبيا ومصر والسودان، يتراءى في هذه الأزمة عدم الاستقرار، ليجسّد المشكلة الأكثر بروزاً، والذي تعاني منه هذه الدول بدرجات متفاوتة. فمصر ما زالت تتلمس خطاها المتعثّرة وسط صراعات بين إرادة الشعب وإرادة الرئيس عبد الفتاح السيسي. أما السودان فيعاني من الصراعات الداخلية، وما زال يخرج من حربٍ ليدخل في أخرى، فضلاً عن بؤر صراع متوترة في الشرق والغرب والشمال. وأثيوبيا تعاني، هي الأخرى، من العنف الطائفي وتوتر علاقتها مع الجارة أريتريا، وعلى الرغم من الهدوء النسبي، إلا أنّه هدوء على فوهة بركان.
ما زالت مصر وأثيوبيا والسودان تواجه حساسية على صعيد أمن خطوط الحدود ومناطقها، في تعقيد واضح لهذه المشكلات، وهو وثيق الصلة بالنزاعات الداخلية، وعدم الاستقرار السياسي، فضلاً عن افتقار مناطق النزاع الحدودي هذه لأي ضابط يحكم التفاعلات والتدفقات والتداخل الذي يؤدي إلى مزيد من الصراع. وأنصع مثال لذلك، وهو ما يعتبر فشلاً في وضع حدٍّ للخلاف وترسيم الحدود، حتى تحولت إلى صدامات حادة بين الدول؛ فمثلث حلايب هو بؤرة الصراع الحدودية بين السودان ومصر، ومنطقة الفشقة الحدودية في ولاية القضارف في السودان بؤرة أخرى للنزاعات الحدودية بين السودان وأثيوبيا. وعلى الخط الحدودي نفسه، وعلى بعد 40 كلم من الحدود السودانية في منطقة بني شنقول، يتم بناء السد الأثيوبي العظيم، والمتوقع أن يصبح أكبر سد كهرومائي في القارة الإفريقية، والعاشر عالمياً إنتاجاً للكهرباء، فهل ستسمح أثيوبيا، بعد أن ضمنت نقطة القوة الإقليمية هذه لأيّ من دولتي المصب بأن تمارس ضغوطها عليها، بالتخلي عن مشروع كهذا؟
بالإضافة إلى الهزات السياسية التي عمّت دول حوض النيل، وهي ما أثّرت على السياسات
“ذكرت الدراسات المختصة أنّ الماء ستكون المادة الأكثر اشتعالاً في العالم، وليس النفط” المائية الخاصة باقتسام الموارد المائية، حدث اختلال وارتجاج واضح في ميزان القوى المائية. ففي مقاله “سياسات مياه النيل”، أرجع آني فريتاس، من معهد الاتحاد الأوروبي للدراسات الأمنية التابع للاتحاد الأوروبي، ذلك الارتجاج إلى دخول عنصر جديد وخطير ضمن الجهات المانحة والممولة لمشاريع الاستفادة من مياه النيل، بالإضافة إلى عنصر معروف منذ سنوات، هو “صندوق حوض النيل” المشترك بين “المبادرة” والبنك الدولي. وكانت آلية عمل الصندوق تفترض الموافقة الجماعية المسبقة من كل دول الحوض، قبل الدخول في عملية تمويل أي مشروع للاستفادة من مياه النيل، بهدف تدعيم البنية التحتية لأيٍّ من الدول الواقعة علي ضفاف النيل. ولكن، ومع ظهور ممولين جدد، مثل الصين والهند ودول الخليج العربي، أصبح التقيّد بشرط الموافقة الإجماعية غير وارد. وأضاف آني فريتاس أنّ ما شجّع هذه الدول المتلقية على المضي في تحقيق طموحاتها التنموية الوطنية، حتى ولو تعارضت مع مصالح الدول الأخرى المطلّة على النهر، هو أنّ هؤلاء الممولين الجدد جاءوا بشروط مرنة، وغير محملة ببنود تعجيزية، مثل التي اشتهر بها البنك الدولي. وبهذا، فقدت دول حوض النيل الحد الأدنى من التفاهم الذي كان بمثابة صمام الأمان وضامن الحماية من المواجهة الصريحة.
كان هناك خلاف مائي مكتوم، بدأ مع بناء السد العالي عام 1964، ذلك التاريخ ترجع إليه أذهان النخبة السودانية على الدوام، حيث أخذ تحويل مجرى النيل شكلين، أولهما في الجزء الشمالي من السد العالي، عند تكوّن بحيرة ناصر في مصر، والتي رافقت تدفقها وعود بالرخاء والتنمية. وكان الشكل الثاني في الجزء الجنوبي عند نقطة تكوّن بحيرة النوبة في السودان، والتي شهدت تهجير آلاف من سكان النوبة، من قراهم التي غرقت تحت البحيرة الممتدة شمالاً وجنوباً. وتعود الأذهان، أيضاً، إلى رفض التسليم والنظر في الاتفاقيات المائية القديمة، خصوصاً الاتفاقية الموقعة بين مصر والسودان عام 1959، والتي أسفرت عن توزيع حصة المياه، حيث خُصص حوالى 55.5 مليار متر، ثلثان لمصر، و18.5 مليار أي ثلث للسودان.
تمثل الخلافات السياسية بين الدول الثلاث عائقاً رئيسياً أمام تفعيل أي حلًّ مرتقب لقضية سد النهضة الأثيوبي، خصوصاً مع وجود تاريخ طويل من عدم الثقة فيما بينها. وقد تعزّزت هذه الخلافات، وأصبحت أكثر تعقيداً مع اتخاذ كل منها نموذجاً مختلفاً لكيان الدولة الرسمي وتعامله في علاقاته الدولية. فالسودان يحتفظ بنموذجه العسكري منذ أكثر من ربع قرن، ومصر ما زالت ترسف أيضاً في أغلال الديكتاتورية، أما أثيوبيا فهي غارقة في العنف الطائفي، بسبب توزيع السلطات والصلاحيات على أساس عرقي، واستبعاد المعارضة ومحاربة وسائل الإعلام.
يقودنا هذا التحليل إلى ما جاء به الصادق المهدي زعيم حزب الأمة السوداني، الصادق المهدي، في كتابه “مياه النيل: الوعد والوعيد” الصادر في العام 2000 أنّ لدول حوض النيل مصالح لا بد من رعايتها، بالاعتراف بالسيادة المشتركة على النهر. وحدّد الصادق المهدي مصر صاحبة المصلحة الكبرى في مياه النيل، لأسباب تاريخية وطبيعية، والسودان صاحب مصلحة كبيرة، باعتبار ما لديه من أراضٍ صالحة للزراعة المروية، وأثيوبيا منتجةً كبرى للمياه والكهرباء. وإزاء هذه الأدوار لكل دولة، فإنّ المطلوب منها نظرة تكاملية لمصلحة الأمن الغذائي وأمن الطاقة فيما بينها. ولا بد أن تدخل دول الهضبة الاستوائية في معادلة التكامل هذه، بعد أن يتأكد الجميع من أنّه في المستطاع وجود معادلات كسبية في حوض النيل، وهذه قد تتحول إلى معادلة صفرية، إذا غابت الحكمة والقيادة الرشيدة.
وقد شجّع الخوف من التأثير السلبي على مياه النيل، على تشكيل لجان فنيةٍ عديدة، لتقدير الآثار السالبة على الدول الثلاث، السودان ومصر وأثيوبيا، من إنشاء السد. ولكن، ليس هناك من سبيل إلى التأكد من استقلاليتها، وعدم دمغ تقاريرها بمواقف ونتائج مبنية على حيثيات سياسية. وبهذا، نجد أنّ المياه تظل، على الدوام، إحدى قضايا الأمن الوطني والقومي، والمساس بها يعتبر مساساً بحرمة الوطن، حتى تحولت إلى ما أنبأت به الدراسات التي ذكرت أنّ الماء ستكون المادة الأكثر اشتعالاً في العالم، وليس النفط.