عواجيز أفريقيا
ظلت أجيال من الأفريقيين – ومنهم السودانيون – الذين ولدوا في عقود ما بعد الاستعمار، تحلم بالعيش بكرامة وحريّة في أوطان بذلت الغالي والنفيس وضحَّت بالمهج والأرواح والدماء من أجل تحريرها وإخلائها من المستعمر، لكن ما حدث ولا يزال، بُعيد خروج الاستعمار، لم يكن مُفزعاً فحسب، بل كان كارثياً بالمعنى الدقيق للكلمة، إذ أن الحكومات الحكام والوطنيين الذين أعقبوا الإدارات الاستعمارية نصبوا أنفسهم سادة للشعوب – وليسوا محض – حكام وإداريين، فنكلوا بها وصادروا حرياتها وسحقوا كرامتها وزجوا بها في أتون حروب قبليّة وعُنصرية لا طائل منها ولا ضرورة لها.
أفريقيا، حيث الثروات البشرية والطبيعية، وحيث التنوع الثقافي والثراء المناخي تبدو اليوم مكاناً ليس غير آمن فقط، بل غير لائق للعيش، مكاناً موحشاً وغبياً يفتقر إلى الحس الإنساني في جانبيه الروحي والمادي. فالاستبداد المبرر بالعقيدة والوطنية والكرامة والمعلق على مشاجب تآمر الغرب والقوى الاستعمارية القديمة على مقدرات الشعوب الأفريقية وثرواتها التي لن يحميها غير هؤلاء الحكام الخالدين، أفرز شعوباً تتمتع بسايكلوجية جمعيِّة سريعة الاستجابة للتخويف والتخوين والاستسلام لما هو واقع عليها من عبودية باسم (الوطن)، شعوب حرياتها مُصادرة، حركتها مقيّدة، محرومة من التعليم والتطبيب والماء النظيف والتعبير عن رأيها والاحتجاج حتى ولو بكلمة إزاء ما يحدث لها من انتهاكات.
استطاعت النخب الأفريقية الحاكمة، قهر شعوبها بما لم يحدث إبان حقب الاستعمار المختلفة، أفسدت كل شيء، قضت على وسائط التطور والمعرفة والتقدم – كلها – السكن التعليم والأحزاب والنقابات، كانت من الأسس التي وضعها المستعمر لتقضي إلى دول مدنية ديمقراطية. فلنتعرف بذلك، لكن هذه الأسس لم تعد متاحة في ظلّ تزايد العزل السكنيّ والتعليميّ والانهيار الحزبيّ والنقابيّ، الذي حدث إبان (الحكومات الوطنية) ولا يزال التخريب مستمراً، فقد استشرت الولاءات والروابط اللاعقلانيّة والهويّاتيّة التي تصدّت لملء الفراغ المتعاظم، أي الطائفة والدين والإثنيّة، رغم أنها ليست وسائط اندماج يتوقع منها أن تحرز تقدماً باتجاه الدولة المدنية الحديثة، بل هي في الواقع أسباب صدّ وانقطاع وتصدع.
والحال هذه، فإنه حري بنا وقمين، الإشارة في هذا الخضم المتعاظم من التخريب والإبادة – على مستوييهما – المادي والروحي، الذين مارستهما الحكومات والحكام الأفريقيين، ضد الشعوب المقهورة، إلى أن أفريقيا التي تعد أكثر القارات شباباً، بحسب إحصائيات أممية (70%) من سكانها من الشباب، لا يزال يحكمها رؤساء عواجيز، حتى تلك القلة التي تكاد لا تُذكر والتي وصلت إلى الحكم بشكل ديمقراطي، أكل عليها الدهر وشرب، مثل جاكوب زوما، رئيس جنوب أفريقيا (73) سنة، والحسن وتارا رئيس كوت دوفوار (73) سنة، والفا كوندي رئيس غينيا (77) سنة، وإلين جونسون سيرليف رئيسة ليبيريا (77) سنة، والباجي السبسي رئيس تونس (89) سنة.
تصوروا، 70 بالمائة من الشعوب الأفريقية من شريحة الشباب، يحكمها حتى ديمقراطياً هؤلاء الكهول! إنها نتيجة طبيعية لسياسيات التخويف والتخوين والرعب، لكنها لا محالة منقضية في البلدان الديمقراطية التي أشرنا إليها، أما في ظل الاستبداد الذي يسود جل افريقيا، فإن الحكام يتاخمون الـ (100) ويصلون حد العجز.. ولا يزالون يحلمون بدورات رئاسية أخرى.