عبد الجليل سليمان

الزّعاقون.. تأويل النسق السياسي


هنالك بعض الظواهر التي يُستعصى تفسيرها مُنفردة خارج كتلتها وتراكماتها؛ وبالتالي، كلما أخضعناها للتأويل (عضوياً ووظيفياً) نستطيع أن نُطوقها ونُرشِّقها، فتغدو إمكانية وضعها في حجمها الطبيعي ممكنة وسهلة، وهكذا تحتاج دراسة ظاهرة السياسي (الزعّاق والهارج) التي تسم جُل ممارسي الأنشطة السياسية سواء منفردين أو ضمن أحزاب إلى استجلاء النسق السياسي الذي نمت (وترعرعت) فيه، وأعني بالنسق هنا الفضاء السياسي العام بجانب الحزبي الخاص، لكونهما يتضمنان أنماطاً من ما يمكن تسميته بالضبط الاجتماعي، حيث إن تحقيق هذا الضبط يغدو وظيفة رئيسة لهذا النسق السياسي، ومن ثم تتحدد بموجبه علاقات أفراد المجتمع مع بعضهم البعض، إذ توضع الحقوق والواجبات تجاه السلطة، فضلاً عن وظيفته في الدفاع عن أفراد المجتمع وحقوقهم وملكيتهم ضد المعتدين سواء أكانوا من أبناء مجتمعهم أم من أبناء المجتمعات الأخرى، يحدث ذلك في الغالب ضمن أنظمة حكومية إدارية تفرز على هوامشها قوى ضبط اجتماعي رسمية، أو أهلية تسير في ركابها (الإدارات القبلية) التي تُعاضد الإدارات الحكومية في مهمة ضبط الأفراد والجماعات العشائرية، لما للنظام العشائري، بحسب منظري (النسق السياسي) القائم حالياً في السودان من تأثير أكثر فاعلية ونجاعة في عملية الضبط الاجتماعي، وما يفرزه هذا الضبط – لاحقاً – من قادة سياسيين موالين للسلطة أو متمردين عليها، بحسب موقف كابينة العشيرة من النسق السياسي السائد والمهيمن.
والحال هذه، فإن المجتمعات المحلية التي تخضع لهذا النسق السياسي (القبلي/ العشائري/ أو الجهوي الإقليمي) تظل رازحة تحت وطأة التناقض الكبير الذي ينتجه هذا النسق الذي يعلن جهراً أنه مدني مبذول لعموم المواطنين الذي يؤمنون بمبادئة وأفكاره وبرامجه، بينما سراً ينعقد على مفاهيم وتحالفات ومحاصصات، قبلية وجهوية، غاية في التخلف والهشاشة، ما يجبره – كثيراً – على دحرجة آيدولجيته وبرامجه (إن وجدت) إلى الأسفل مقابل تصاعد الخطاب الأخلاقي المتعالي الذي يؤسس لنفوذ يدير الحاضر بمقتضيات ماضوية، فليست ثمة مشروعات سياسية حقيقية (برامج) واضحة المعالم بائنة الاتجاهات للأحزاب السياسة السودانية كافة، بما فيها جماعة الإخوان المسلمين والشيوعي والحركات المسلحة، دع عنك الأمة والاتحادي ومفارزهما واللفيف الجهوي القبلي الراهن.
بطبيعة الحال وضرورته، فإنّ نسقاً هشاً كهذا، لا يُمكن أن يُقدِّم رجالاً ونساءً بارعين- إلاّ استثناءً – ومن خلالِ الكد الفردي؛ لذلك فإن جُل السياسيين يستعيضون عن نكباتهم المستمرة بالصراخ والخطب الحماسيّة، إذ إنهم لا ينتمون إلى برامج وأفكار بل يهفون إلى الاستوزار وتحقب المناصب الكبرى التي يتوسلون بها إلى (جمع الأموال)، ومن ثم تأمين حياة شخصية رغدة، وهذا ما يُنتج الأنظمة الفاسدة أيضاً.
وعليه، فإنك إذا ما رصدت الأيلولة الأخيرة والنهائية لأي سياسي (زعّاق وهارج)، تجده متقلباً ومتنقلاً من حزب لآخر بغية الحصول على مصلحة (شخصية) هنا لم يجدها هناك، وهذا هو ما يفسر استشراء الفساد وتمدده في الأوساط السياسة، كما يفسر ضعفها وهشاشتها وعدم قدرتها على إدارة الدولة وإنهاك الشعوب وإفساد الحياة العامة، الأمر الذي يؤمن لها (للنخب) الاستمرار في تسيُّد الواجهة وصناعة الأحداث، بينما تنحسر وتتقهقر الدولة، ثم تزول.