نحن «قد» نزرع الشوك ..!
«إن اختلاف الأجيال في أحوالهم إنما هو باختلاف نحلتهم في المعاش» .. ابن خلدون ..!
في حوار سئل الزعيم السياسي الراحل الأستاذ محمد إبراهيم نقد ــــ رحمه الله ـــــ عن موقفه من دعوة بعض أهل المؤتمر الوطني إلى تحديد سن للتقاعد السياسي «الستين كعمر مناسب لاعتزال القيادة».. فقال – بعد «تغريض» الفكرة – إن الظروف التي مرت بها الأحزاب خلال ثلاث شموليات، جعلت اسم قائد الحزب هو الرمز، وهذه – بحسبه – قيمة كبيرة، لأن المسائل لا يتم حلها بذهاب أولئك ومجيء هؤلاء، بل بالتطور الطبيعي للكيانات الاجتماعية ..!
ثم قدم تأصيلاً تاريخياً لحكاية الحديث عن ذهاب القدامى، فهو كان من الذين هتفوا للفكرة فيما مضى، ولكنه «كعادة قادة الأحزاب» كان يعيش استدراكاً لاحقاً، مفاده أن الوضع السياسي – في ذلك الحين – كان يتطلب بقاء القدامى في مواقع القيادة والرئاسة .. فالجماعة – إذن – باقون!
هذا النكوص العكسي – إن جاز التعبير – هو جزء لا يتجزأ من لطائف وغرائب شخصية السياسي السوداني حاكماً ومعارضاً، وقد سبق للسيد نقد صاحب كتاب «علاقات الرق في المجتمع السوداني» أن قال – ذات حوار – «إن جاءنا خاطب لإحدى بناتنا نبحث في أصله ونسبه .. حبوبته منو؟.. قبيلته شنو»..؟!
لا غرابة إذن في ردة فعله اللطيفة بشأن تهمة الرجعية، «ضحك على سؤال حول اتهام بعض النساء المحسوبات على اليسار، لقيادات الحزب الشيوعي بالرجعية» .. فالواقعية السحرية – إن جاز التعبير – هي أكثر ما كان يميز ردود أفعال وإجابات الرجل، والحكاية برمتها صورة من صور الممارسة الأزلية لذلك النكوص المنهجي الذي يكلل علاقة السياسي السوداني بمبادئه الحزبية ..!
ما زلت أذكر ـــ أيضاً ــــ إجابة الزعيم السياسي الوفاقي السيد الإمام الصادق المهدي ــــ أطال الله بقاءه ــــ على سؤال لقناة الجزيرة عن مفارقة اعتراضه الأسبق، في نهاية الستينات على الجمع بين الإمامة ورئاسة الحزب في عهد الإمام الهادي، ثمّ حرصه هو على الجمع ــــ بعد ذلك ـــــ بين ذات «الحُسنَيين» .. والتي كان مفادها أن رفض المبدأ في الماضي لا يُدين تطبيقه في الحاضر، وأن الرجوع عن الفكرة في الحاضر يُخطِّئ طرحها في الماضي..!
الوصائية الفكرية التي يمارسها قادة الأحزاب مشهد أصيل في لوحة العصبية الجيلية التي تعشعش داخل أروقتها، فهم مافتئوا يستمرأون مراسم التتويج ومظاهر التأليه .. بينما القراءة الصريحة لتاريخ الأحزاب السودانية يقول بالآتي: حضور المعارضة السودانية في المسرح السياسي – من الأمس إلى اليوم – هو مثل حضور الكابتن «هاستنغز» صديق المخبر السري «هيركيول بوارو» في روايات أجاثا كريستي، البوليسية ..!
ولا تزال علاقة الفكر السياسي بسلوك النخب الحزبية في السودان تحكمها نتائج ومآلات خضوع الثابت الفكري للمتغير العمري، لذلك كانت أحزابنا السياسية وما تزال مسرحاً لبطولة الرجل الواحد ..!