عبد الجليل سليمان

السر مكي.. ضاقت بك الدُنيا ولكنك لم تضق


يا له من خبر صاعق، خبر رحيل أستاذنا ومعلمنا الكبير (تاج السر مكي)، أحد أعلام التعليم والصحافة في بلادنا، رحل أستاذنا بجسده لكن روحه الوقادة والتواقة للحياة والحرية، وعقله المستنير، وضميره اليقظ، ستظل فينا ما حيينا، نسترشد بها ونحن نسير على هذه الطريق المُفخخة، طريق الصحافة والتنوير.
تعرفت على أستاذي الراحل، نهاية تسعينيات القرن المنصرم، وكنت أزوره – إلى أن تقطعت بيّ عنه سبل العمل – بصورة منتظمة في صحيفة الأيام حيث ظل وفيًا لها، يكتب زاويته الرائعة (أضواء ومفارقات)، كنتُ أجلسُ في حضرته في تلك الفرانده (قرب مقر الأيام)، أستمع لنصائحه وإرشاداته وأُدهش لإنسانيته الفريدة وقناعته الراسخة بنصرة القطاعات المهمشة من هذا الشعب العظيم.
كيف يا ترى، تلقت تلك الفراندة نبأ رحليك (السر مكي)، لا شك أن المكان أضحى موحشًا ولسوف يظلُّ بلا معنى، إذ كنت معناه وخلاصته، وكنت رحيقه وعطره. وكيف هي (الأيام) الآن؟ كيف تتداول روحك فيها؟ وكما قال (سعدي يوسف)، أقول، مع بعض التحوير الطفيف: الأيامُ ، في أيّــامنا، عجَب، وأقرأُ في رسالته الأخيرةِ وفي الكتــــبِ التي ليست بلون قمـــيصِكَ، اسمعْــني.. ضاقت بك الدنيا، ولكنْ لم تضِقْ، فللأشجارِ موعدُها، وإنْ طالَ الخريفُ سنينَ أو دهراً!! وكنت تقول أيضًا: خمسَ مرّاتٍ تَـلـَوتُ الشِّعرَ في وطني، لأبتدِئ الرحيلَ.
ومرات لا تحصى، تلوتَ أنت نشيد الوطن، فلم يصخ أحداً، كلهم أداروا ظهورهم وولوا الأدبار، تركوك وحيداً تقاوم، تكتب عن الديمقراطية، والنظام التعليمي الهش الذي بمنهجه التلقيني وفجاجته هذه، فإنه لا محالة سيؤول إلى حاضنة للتطرف والعنف، وفصلت في ذلك تفصيلًا، ثم حين كانت الجموع تهرول إلى السلطة والكراسي – وأنت أحق بها منهم – كنت مستغرقًا في إدارة حوارات حول القضايا الكبرى، كنت تكتب منتقدًا الأحزاب السياسية كلها: “لم تلعب القوى السياسية بمختلف فصائلها دورًا في درء الانفصال الذي وقع كأكبر فاجعة في تاريخ البلاد رغم أنه اتيحت كل الفرص لجعل الوحدة خيارًا جاذبًا.. حق تقرير المصير لم يكن أحد أهداف الحركة الشعبية خاصة ونحن نستمع إلى د. جون قرنق، وهو يقول في أحدى خطبه الشهيرة “نحن نحارب من أجل الوحدة”، فقد أسس كل مشروعه على فكرة الوحدة وكان يتحدث دائمًا عن تنوع تاريخي وتنوع معاصر وإن ذلك التنوع أفرز ثقافات متباينة.
لم ترحل، سيدي تاج السر مكي، فها هي كتاباتك تبدو كديباجة دستور متقدم لبلاد حرة وديمقراطية. ألستَ القائل “إن أي مشروع سياسي لا يمكن أن يتحقق إلاّ من خلال قوى تحمله.. لا تحمله كجثة صماء بكماء أو مقدسة وإنما كمشروعٍ قابلٍ للتطوير ويسعى من يحملونه لكسب قوى اجتماعية من أجل تحقيقه فيغدو برزخا وواسطة لتحقيق المشروع، فهل الاحزاب التي جاءتنا إرثًا من الماضي صالحة للقيام بهذه المهمة؟” هكذا كنت تطرح الأسئلة، وكانت الإجابات تأتي نعيًا لتلك الأحزاب المشلولة والعاجزة عن الفعل.
كُن طيِّبًا في عليائك سيدي، ونعاهدك بأن نمضي في دربك ما استطعنا، إلى أن نصعد إليك. وطبت.