ضياء الدين بلال

(الماسورة )!


-1-
قبل أيام، كانت قوات الشرطة تقتحم معسكر نازحين، يُعتبر من أكبر الأماكن إنتاجاً للخمور بولاية الخرطوم.
وسائط التواصل الاجتماعي، تناقلت صور القوات، وهي تتأهَّب للهجوم وكأنها في معركة حربية على خط بارليف!
عقب المداهمة، نُشِرَت صورٌ لضبطات الخمور بالمعسكر، وهي كمية كافية لإسكار أغلب سكان الولاية و(نعنشة البقية)!
-2-
بالقرب من سوق (نمرة 2) وسط الخرطوم، اقتربت مني فتاة تحمل صينية في يدها، عرفتني بنفسها بأنها بائعة شاي.
تحدثت معي بلُغة وطريقة مبهرة جداً عن أزمة الغاز، مؤكدةً أن الأزمة لا تزال مستمرة رغم منشيتات الصحف، خاصة في أطراف الولاية، وأن اسطوانة الغاز تُباع ليلاً في السوق الأسود بمائة جنيه ونهاراً في محلات الغاز – إن وجدت – تُباع بستين جنيهاً.
واستشهدت الشابة الأبنوسية بتصريحات مسؤولين أدلوا بها للصحف ولبعض البرامج التلفزيونية يؤكدون تجاوز الأزمة.
أصدقكم القول، لم أُفاجأ بمعلومات أزمة الغاز، لأنني وقفت عليها على المستوى الشخصي، وفي محيط الأهل والمعارف، ومن تحقيقات الصحف وصفوف الاسطوانات الفارغة.
لكنني فُوجئت بمستوى ثقافة الفتاة ومقدرتها على التعبير بصورة تحليلية قائمة على الأرقام والمُقارنات ورصد التناقضات، قلت لها بتردد وحذر: (هل أنتِ مُتعلِّمة؟).. سخرت من سؤالي وقالت لي: (أنا يا أستاذ ضياء خريجة علوم سياسية جامعة النيلين)!
-3-
تحدثت مع من كانوا معي في ذلك المكان: لماذا تضطر شابة بهذه المقدرات والتأهيل لامتهان عمل هامشي وهو بيع الشاي؟ وكم مثلها من الشباب والشابات تضطرهم ظروف الحياة لامتهان أعمال هامشية بعيدة عن تخصصاتهم، دون أن يجدوا حظهم في وظائف تكافئ ما نالوه من تأهيل أكاديمي وما بذلوه من جهد في الدراسة؟!
-4-
قبل ثلاثة أيام، تلقيتُ دعوة كريمة من السيد والي الخرطوم الفريق أول عبد الرحيم محمد حسين، لحضور تدشين عمل نوعي كبير، لدعم الشرائح الفقيرة عبر ديوان الزكاة.
الاحتفال كان بأرض المعارض ببري، شرَّفه رئيس الجمهورية المشير عمر البشير.
في الاحتفال، وجدت أعداداً كبيرةً من الأسر أغلب أفرادها نساء، جاءوا لتملُّك مشاريع إنتاجية حددت لأكثر من أربعة آلاف أسرة بتكلفة (42) مليون جنيه.
وفي الاحتفال، أعلنت الولاية التزامها بتعيين مائة ألف خريج جامعي خلال العام 2016. وزيرة الرعاية والضمان الاجتماعي الأستاذة مشاعر الدولب قالت في الاحتفال، إن ديوان الزكاة يستهدف في العام الحالي تمليك وسائل إنتاج لثلاثين ألف مستفيد على مستوى السودان، وأضافت معلومة مهمة وهي أن (70)% من ميزانية الزكاة ستُنفق على الفقراء والمساكين.
-5-
نعم هذا هو الطريق الصحيح للتعامل مع الإفرازات الاجتماعية المترتبة على أزمات الفقر والعطالة.
الهجوم على أماكن بائعات الخمور، ومحاربة بائعات الشاي، عبر (الكشات)، عمل لا يتجاوز نطاق التعامل مع أعراض الأزمات، لا مع مَنشئها وأسبابها.
من المسؤولية الأخلاقية والدينية لأجهزة الدولة، معالجة مشكلات الفقر والبطالة، عبر المشاريع وبرامج الإسناد والدعم لا عبر الوسائل العقابية!
أتمنى أن يتم إدارج بائعات الخمور في الأحياء الطرفية في برامج التأهيل والدعم لوزارة الرعاية الاجتماعية.
ومثل بائعة الشاي من خريجات الجامعات، من الممكن أن تتاح لهن فرصة للعمل بصورة كريمة عبر برنامج للتمييز الإيجابي، دون أن ينتظرن أن تأتي إليهن الفرص عبر كوتات الحركات المسلحة!
-أخيراً-
حسناً فعلت الحكومة وهي تختار وزيرتَيْن هميمتَيْن في المركز وولاية الخرطوم لوزارة الرعاية والضمان الاجتماعي، هما مشاعر الدولب ودكتورة أمل البيلي؛ فالنساء أكثر إحساساً بأوجاع الآخرين وآلامهم، وأكثر همة لتأدية ما عليهن من واجبات بصورة خلاقة ومتفانية، تصلح (الماسورة المكسورة)، ولا تكتفي بغرف المياه!