منعُ الرغيفِ سفاهةٌ
لا أتذكر متى قرأت قول (أبو المخفَّف) أعلاه، لكنني أذكر أنه حفزّني لتأمله والتوقف عنده، ومُذاك وإلى اللحظة، ما أن أقرأ خبرًا عن الفقر والفاقة والمجاعة و(الفجوة الغذائية)، حتى يحضرني أو استحضره، وهكذا أصبحت ممن لا يحتاجون لمن ينبههم إلى أن الخبز هو مرادف الحياة، ورمزًا لاستمرارها وتطورها منذ آلاف السنين وإلى الآن.
وطالما اخترت الانغماس في سيرة الخبز، لن أمضي عنها دون الإشارة للشاعر التونسي شوقي البرنوصي الشهير بشاعر الميكانيكا، قال: “في الزمن الحديث، حيث تطغى العولمة التي طالت القوت اليوميّ، فنحن لا ننسى ريادة الخبز، فها هو اللورد الانكليزي ساندويتش (SANDWICH) اكتسب شهرته بفضله. فهوسه بالقِمار، جعل طباخه يعد له أول فطيرة دسمة وسريعة التحضير”.
بطبيعة الحال، فإن الخبز يتسم بخلفية وجودية لا نظير لها، وبهذا المعنى فهو يمثل وقود حيوي للعمل الفكري، ولعلّ ذلك ما يفسّر ازدهار الفلسفة والمعرفة لدى اليونانيين القدامى، حيث كانوا يولون بالخبز اهتماماً بالغاً، حتى أنهم اعتبر في منعه قتلا للاجتهاد ومرادفا للاضطهاد وفناء للحكمة. ومن الطبيعي أن نقف خلف الطوابير بحثا عنه! وإذا تبخرت الحكمة لا يتبقى سوى شهداء الخبز والأحياء أكثرهم.
يقول البرنوصي: يمر الخبز في دمنا فننساه سريعا، ننسى أنه حلم الجوعى والتائهين. ننسى أنه يرافقنا في كل وجباتنا ورحلاتنا وخرافاتنا وأنه موحد الأديان جميعها. رمز القوت ووقودنا اليومي. يقول مثل روسي : “مع كل قطعة خبز تجد جنتك “. ويقول أبو المخفَّف الشاعر الذي عاصر المأمون: “منعُ الرغيفِ سفاهةٌ.. تركُ الرغيفِ منَ الهَباتِ”.
رمزية الخبز تحتشد بمعان كبيرة، بمعاني الحياة والموت والفقر والرفاهية، والعقل والجنون، لذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم “أكرموا الخبز فإن الله أكرمه وسخر له بركات من السماء والأرض، ولا تسندوا به القصعة فانه ما أهانه قوم إلا ابتلاهم الله بالجوع”. فهل رأيتم يا ديوان الزكاة ووزارة التنمية الاجتماعية، ويا من بيدهم الأمر كله، أم لا زلتم لا ترون؟
وأمس، تكتب هنا في هذه المساحة المهندسة رابعة عبد الهادي عيسى، لتنوه إلى أنه لربما وصلت نسبة الفقر في ولاية الخرطوم إلى 77%، ونهدي كتابها إلى وزير التنمية الاجتماعية أمل البيلي، وإلى حين وصول (مكتوبنا) إلى الجهات ذات الشوكة، نشير إلى أن كل الأدبيات احتفت بالخبز ومجدته ودعت أولياء الأمر إلى توفيره لكل محتاج و(ليس منا من بات شبعان وجاره جائع)، وأكثر من ذلك نقول: أن بيت لحم، حيث ولد المسيح تعني بالآرامية دار الخبز وأن المسيح قال: “في الماء هذا أبي وفي الخبز هذا أمي”.
للخبز، يا سادة يا كرام، بجانب البعد الديني والسياسي بعد ايديولوجيّ، يبلغ أحياناً مرحلة صراع الطبقات، كما له بعد إنساني، يمكن مسرحته في صور بالغة التأثير والعمق، تحفز على البكاء والتعاطف، واحدة من تلك الصور أن يحصل بعضنا على خبزهم من هوامش مزابل الموسرين.