جعفر عباس

أبعدوا عني هذا الرجل.. رجاء!


(صرت من كتاب مجلة «المجلة» في عام 1996، وبعدها بثلاثة أعوام انضمت إلينا الروائية الجزائرية أحلام مستغانمي، واختارت أن يكون مقالها الأول في المجلة عن شخصي، وظلت على مدى السنين تشد من أزري، وعندما انتقلت إلى مجلة «سيدتي»، طلبت مني اللحاق بها، فاعتذرتُ؛ لأنه لا يليق بحفيد عنترة العبسي، أن يكتب في مجلة ستاتية، وأترككم معها).
منذ قررت الكتابة في «المجلة»، كان بي الفضول لمعرفة من هؤلاء الكتّاب الذين سأقيم بينهم، وماذا يقولون في مجلسهم، ودرجات تعقلهم أو جنونهم، وإلى أي حد يمكن لقلمي أن يفلت في حضرتهم. فبالنسبة إلي كل منشورة هي مجلس، قد تهرب فور سلامك على أصحابه، وقد يكونون أناسا من تواضع العلم وخفة الدم وبساطة المعشر، بحيث تجالسهم كاتباً أو قارئاً، لتضحك وتحكي وتزايد عليهم جنوناً، ذلك أن الحياة لا تستحق الوقار الكاذب. والكاتبة فضّاحة، وعلى الذي يجلس في أي مكان من مجلة متوهماً أنه يدير «مونولوغاً» مع نفسه، أو حواراً علنياً مع قارئ بالذات، أن يعيد قراءة ما كتب، ليكتشف حماقاته.
لو كان الأمر كذلك لاطمأن الواحد إلى كونه سيبقى «مستوراً» مهما كتب. ولو أدرك لمن هو يكتب، ومن هو هذا القارئ الذي شرفه بالجلوس على الطرف الآخر من الصفحة، وراح يتسلى وهو يرتشف قهوته، بتفحص صورته، والتدقيق في ملامحه، والتربص بأخطائه، والوقوف عند زلاّت قلمه وانتمائه، لهان الأمر أيضاً، وعرف كيف يصلح بعض الشيء من جلسته، ويقوم بتهذيب لغته وكتابة كلام على قياس قارئه.
المشكلة في الكتابة، أنك غالباً ما تكون لا تدري ماذا أنت جالس لتكتب، مما يجعلك مهيئاً تماماً، كي تنزلق نحو ذاتك، وتبوح وسط فوضاك بأشياء لم تكن مهيئا للاعتراف بها. وإذا كان هذا «الانزلاق» سبباً في تحويل بعض النصوص إلى أعمال إبداعية خالدة، فإنه في الصحافة، لا يصنع سوى فضيحة تتراوح بين «الفضيحة الكارثة» و«الفضيحة الجميلة»، كتلك التي لا تملك إلا أن تتعاطف مع صاحبها وتأخذه «على قد عقله»، من نوع ما عودنا عليه جعفر عباس (أو «جافا» للإنجليز والأصدقاء) والذي نجح برغم نظاراته الطبية السميكة، التي أورثه إياها أبوه، من جملة ما أورثه من قصر نظر وقصر حيلة، وبرغم أنفه «الإفريقي الذي لا يقدر إلا على شفط غاز ثاني أوكسيد الكربون»، وبرغم جلده وشعره وتفاصيله الكثيرة التي تزعجه وتمنعه من أن يكون مواطناً إنجليزياً فوق الشبهات. (كنت – جعفر – في تلك الفترة أعمل في بي بي سي في لندن).
برغم هذا، أو بسببه، نجح في أن يبدو أكثر كتّاب هذه المجلة وسامة واتزاناً (أجل!) حتى أنني كلما تأملت صورته، لم أفهم إصرار نبيلة عبيد على عدم الزواج منه، بعدما لم أكن أفهم إصراره على الزواج منها.
وبالمناسبة، لا أدري كيف لم ينتبه رئيس التحرير لخطورة جمع سوداني وجزائرية في مجلة واحدة. ولم يأخذ بعين الاعتبار نزعاتنا الإفريقية للتآمر، ولا «جيناتنا» الإجرامية، واستعدادنا لتأسيس تنظيم إرهابي لمجرد تجاورنا. ومن دون أن تكون بيننا أية معرفة سابقة.
أبعدوا عني هذا الرجل، إنه يستدرجني للجنون. أرجوكم، أفصلوا بيني وبينه بما استطعتم من الصفحات، ضعوا بيني وبينه كتيبة من القبعات الزرقاء، لسلامة ما تبقى من عقلي. فأنا أم لثلاثة أولاد.
يرحم والديك يا خويا يا رئيس التحرير.
وللحديث بقية

jafabbas19@gmail.com