لعنة الحرب ..!!
:: ( الجريمة)، للروائي الراحل نجيب محفوظ..وفيها يعود ضابط المباحث متخفيا إلى قريته بعد ربع قرن لتقصي الحقائق في جريمة قتل مضى عليها خمس سنوات ولكن تم إكتشاف الجثة مشوهة ومحروقة حديثاً.. توغل الضابط في مجتمع القرية، وتعرف بكل أهلها وبرجال أمنها..ومع ذلك لم يجد حتى (طرف خيط) من كل وقائع الجريمة وتفاصيلها وشخوصها..فالقرية تعرف كل التفاصيل والوقائع والشخوص، ولكنها تلتزم الصمت أمام الغرباء، وبالصمت تهدر كل قيم العدالة..ولهذا فشل ضابط المباحث المتخفي في مهمته، وغادر القرية..وفي محطة المغادرة، يسأله أحد ضباط المنطقة عما سيكتبه في تقريره، فيرد باستياء : (سأكتب أن القيم مهدرة، ولكن الأمن مستتب)..!!
:: ومن الأبيض، الطريق إلى كادوقلي (290 كيلو متر)، محفوف بآثار خريف هذا العام و حرب السنوات الفائتة..فالأشجار تساقطت أوراقها قبل أوانها، وبعض الزرع لم يكمل دورة الحياة بحيث ينتج كما يجب، و أما الحشائش فأن صفار لونها يحكي عن جفاف الوديان قبل الأوان أيضاً..أمطار خريف هذا العام كانت دون المعدل و(المعتاد)..والرعاة بإبلهم وأبقارهم وضأنهم يتنقلون من مكان إلى آخر بحثاً عن المراعى الموصوفة (بالمحدودة)..ليبقى التوجس من عدم حدوث إحتكاك بين الرعاة والزراع، وإن كان ما تم تخزينه من أعلاف تكفي الأنعام لحين مارس وإبريل حيث أمطار ما قبل الخريف العام..فمن نعم الله على أهل تلك الديار أن أمطاراً هناك تسبق موسم الخريف..!!
:: وآثار الحرب تبدوا على جانبي الطريق (تأميناً كثيفاً)..وفي أرياف المحليات البعيدة عن الحرب تتجلى ملامح الحرب (نزوحاً خفياً).. محلية القوز، تبعد عن الأبيض (100 كيلو)، وعن كادوقلي المجاورة لمحليات تحت سيطرة التمرد (190 كيلو)، ومع ذلك في مدائن وأرياف القوز والدبيبات تجد أوضح ملامح الحرب وهو النزوح لحد تكدس الفصول بما لايطاق من التلاميذ..تسعون مدرسة أساس وتسع مدارس ثانوية، ومعظمها بالمواد المحلية..وبنسبة إجلاس لا تتجاوز (10%)، وبنسبة كتاب تكاد تكون بمعدل كتاب لكل معلم ببعض المدارس وعلى التلاميذ الإستماع و(التخليص)، أو كتاب لكل خمسة تلاميذ – في أحسن الأحوال – في السواد الأعظم من المدارس..وقد لايصدق العقل زحاماً يبلغ مداه في بعض الفصول (130 تلميذاً)، وبحد أدنى لا يتجاوز (70 تلميذا)..هكذا آثار النزوح في محليات جنوب كردفان ..!!
:: وهناك من يقدر حجم الأسر النازحة من مناطق التمرد ب (102.000)، وضعف هذا الحجم يسعى إلى النزوح والخروج من تلك المناطق ، ولكن سياج المدافع والبنادق يحول دون ذلك.. والمٌدهش، رغم النزوح وآثاره في الأسواق والمدارس والمشافي، فأن ولايات كردفان خالية من (معسكرات النازحين)..وقديماً قالها الإمام الشافعي بالنص الشعري : ( الناس بالناس ما دام الحياة بهم، والسعد لاشك تارات وهبات/ وأفضل الناس مابين الورى رجل تقضى علي يده للناس حاجات)، وحالياً يرددها أهل كردفان الكبرى بياناً بالعمل وهم يفتحون قلوبهم قبل أريافهم ومدائنهم ومدارسها ومشافيها للنازحين، ولا تُميُز – في أحياء المدائن والأرياف – ما بين النازح والمقيم إلا حين يحكي عن الحرب والسلام ..و.. و.. لأن الكاميرا أصدق وأوضح تعبيراً، في غير هذه المساحة ، لآمال تلك الديار وآلامها تفاصيل أخرى..!!