جعفر عباس

مني الحزام ومنه الحذاء


عملت مدرساً عدة سنوات في مدارس بنات ثانوية في السودان، وكانت كلها باستثناء واحدة، مدارس تتسم بانضباط طالباتها، وجديتهن في التعلُّم، واحترام النظم ومراعاة قواعد السلوك القويم، وكانت تلك المدرسة التي استثنيتها، خاصة/ أهلية، ومن النوع الذي يعامل الطالبة التي يسدد أهلها المصروفات الدراسية أولاً بأول كطالبة متميزة، حتى لو كانت غير منتظمة في الحضور إلى المدرسة أو لا تهتم بدروسها أو مظهرها.. وكانت غالبية بنات تلك المدرسة من الأسر الغنية القادرة على دفع أي مبلغ تطلبه المدرسة، وكانت قلة بسيطة منهن تعتبر المدرسة مكاناً للترفيه والقرقرة واللقلقة.. يعني معظمهن كن بنات طيبات وراغبات في الدراسة.
أتذكرون كيف وصف حبيب الجماهير من يوكوهاما إلى خليج الخنازير، جورج بوش أولئك الجنود الذين عذبوا المعتقلين في سجن أبو غريب في العراق؟ قال إنه من المألوف أن تكون هناك تفاحة معطوبة في الصندوق المليء بالتفاح الطيب (ثم اتضح أن معظم التفاح الأمريكي في العراق كان «بايظ» على الآخر).
المهم كانت في تلك المدرسة نحو ثلاث تفاحات معطوبة، وكن مصدر إزعاج للمدرسين والمدرسات وزميلاتهن، وكنت لهن بالمرصاد ليس لأنني أكثر المدرسين تشدداً وحرصاً على النظام، ولكن لأنني كنت أكثرهم شجاعة! كيف؟ بقية المدرسين كانوا يتقاضون رواتبهم من المدرسة، أما أنا فقد كنت معاراً إليها من وزارة التربية، ولم أكن «سائل» في مديرة المدرسة أو وكيلتها اللتين كانتا تدللان كل بنت غنية يدفع أهلها الرسوم المقررة في موعد سدادها، حتى لو استبدلت الزي المدرسي بملابس شعبولية (نسبة إلى شعبان عبد الرحيم ملك الأناقة وال…. الرجيم)، وفي كثير من المدارس الخاصة، فإن المدرس بلا كلمة ولا سلطة، وعليه أن يصمت على كثير من التجاوزات كي لا يفقد وظيفته! أما أنا فقد كنت أتعمد استفزاز مديرة المدرسة والتحرش بها (ليس بطريقة كلينتون)، ولكن بمعنى أن أتعمد الاصطدام بها في كل ما يتعلق بنظريتها القائلة «من يدفع ينفع».
ذات يوم، وعقب انتهاء اليوم الدراسي، خرجت إلى الشارع لأسمع عويلاً وصراخاً، ووجدت طالبتين من فئة التفاح المعطوب في مشاجرة مع فتاة أخرى، كانت بالأحرى معركة استخدمت فيها الأسنان والأظافر، مما تسبب في تمزق الملابس وانكشاف العورات، ووجدت رجلين من المارة يحاولان التفريق بين المتشاجرات، فطلبت منهما التراجع، وخلعت حزام بنطلوني ومارست الحقد الطبقي، بأن انهلت ضرباً على التفاحتين والطرف الثاني في المشاجرة (ولم تكن طالبة بالمدرسة) حتى صرخن: «الروب»، وفي السودان فإن من ينطق بكلمة الروب في مشاجرة يعتبر مستسلماً. وتوقفت المشاجرة وأمرتهن بدخول مبنى المدرسة، ثم كتبت ورقة لولي أمر كل منهن بأن ابنته لن تستأنف الدراسة ما لم يأت هو شخصياً لكتابة تعهد بأنها ستكون حسنة السيرة والسلوك، وبكل وقاحة قلت لمديرة المدرسة إنني سأبلغ الوزارة بما حصل إذا حاولت «لفلفة» القضية، لأن التفاحتين من أسرتين غنيتين!
وبالفعل أتت كل من الطالبتين بصحبة والدها وسردت على الأبوين تفاصيل المشاجرة وقيامي بضربهن بالحزام، فقال لي أحدهما: معليش أنت غلطان يا أستاذ لأنك ضربتهما بالحزام وكان من المفروض أن تضربهما بالحذاء، ودارت السنين وذات يوم استوقفتني امرأة طول في عرض وحيتني بالاسم، ورددت على التحية بأحسن منها، ولما أدركت أنني لم أعرف من تكون، قالت لي إنها واحدة من الطالبتين اللتين تعرضتا للضرب بالحزام في تلك المشاجرة، وأضافت: والله إلى يومنا هذا لم أتشاجر مع أحد إلا باللسان!!
عاد هذا الشريط إلى ذاكرتي عندما قرأت عن مشاجرة بين سيدتين في إربد بالأردن أدت إلى إغلاق شارع رئيسي، لأن المارة امتنعوا عن التدخل لفض المشاجرة تفادياً لملامسة المتشاجرتين.. لو كنت هناك لما لمست أياً منهما بيدي،.. بل بالحزام أو بالجزمة… هكذا يتصرف القرويون.

jafabbas19@gmail.com