نفعكم الله بعلمي يا بريطان (1)
من الحقائق الثابتة تاريخياً أنني شخص وفيٌّ حتى للاستعمار، فقد زرت لندن مرات أكثر من زياراتي لأي عاصمة عربية وافريقية، وكانت بريطانيا قد استعمرت بلدي (السودان) نحو 55 سنة فقط، ثم رحلت بعد ان سلمت مقاليد الأمور لمستعمرين محليين (وطنيين)، وتقديرا لحبي لبلادهم جعلوني ذات عام ضابطا للإعلام في سفارة بلادهم في الخرطوم، ثم، في منتصف تسعينيات القرن الماضي طلبوا مني أن أسهم في إطلاق قناة تلفزيون بي بي سي العربية، كخبير أجنبي، فقبلت بالتكليف وعملت في تلك القناة إلى أن «جبت خبرها» فتوفيت غير مأسوف عليها بعد عامين من انطلاقتها، وقبل بضعة أعوام طلبوا يدي مجددا لأعمل في نفس القناة بعد استنساخها، فاعتذرت، لأن زوجتي أعلنت أنها ستخلعني وتجعلني سكند هاند إذا عملت في لندن حتى كرئيس وزراء (أصلا هي مو وجه نعمة).
وبالتالي، فزياراتي المتكررة لبريطانيا ليس طمعاً في عمل أو مال أو بنين، أو لتلويث النسل، بل فقط لتعزيز الروابط «التاريخية» بين العرب وبريطانيا، وبالتالي فإن ضميري يملي عليّ أن أضع خبراتي ومعارفي الغزيرة تحت تصرف بريطانيا، والشعب البريطاني «الشقيق». وبالطبع فإن دوري سيقتصر على إسداء النصح للبريطانيين لأنني لا أملك صلاحيات «تنفيذية» تمكنني من وضع نصائحي موضع التنفيذ، لذا فإنني سأقوم بتحديد وتشخيص العلل التي تعاني منها بريطانيا، بل تحديد الدواء الذي يتألف من وصفات عربية مجربة ذات مفعول أكيد.
أكبر علة تعاني منها بريطانيا اسمها «التخطيط»، فالبريطانيون لا يفعلون شيئاً إلا في ضوء خطة معينة، يخططون للإنجاب، والتسوق، والتصنيع، والإجازات، والحرب، والسلام، ولهذا فإنهم يصابون بتساقط الشعر، والأرق، وسرطان الثدي، وعلاج كل هذا بسيط، وهو أن يقوموا بالإقدام على أي عمل من دون تفكير مسبق، كما نفعل نحن في العالم العربي: فنحن إذا أعجبنا بفكرة مشروع معين فإننا إما أن نبدأ بتنفيذه على الفور من دون تفكير في العواقب، وبعدها «يحصل ما يحصل»، أو نصرف النظر عنه إلى أن تثبت جدواه في أحد البلدان الموبوءة بداء التخطيط، وهذا يفسر سرّ «طول العمر» وندرة «الصلع» في العالم العربي. فأدمغتنا وأعصابنا لا تعاني من الإرهاق، لأنها لا تعمل إلا بعُشر طاقتها، لذا فإننا نجلس في المقاهي ونقهقه في الفاضي والمليان مما يجعل أعداءنا في حالة قلق دائم لأنهم لا يفهمون سر «سعادتنا» الدائمة.
وما يجعل داء «التخطيط» هذا شديد الفتك، هو أن البريطانيين يعتبرون «المواعيد» أمراً مقدساً، فالعمل يجب أن يبدأ في ساعة معينة، وعلى الموظفين أن يكونوا في مواقع العمل «بالدقيقة والثانية»، والمرأة الحامل يجب أن تلد بعد تسعة أشهر وأسبوع. يقف الواحد منهم في انتظار «البص»، وعندما يجيء لا يركبه، لأنه جاء قبل الموعد بدقيقتين، ولأنهم مهووسون بالمواعيد فإنهم في حالة هرولة مستمرة، وكل واحد منهم يكلم نفسه. أما نحن فأمة هادئة، ومزاجها رائق، يتوجه الواحد منّا إلى عمله في الموعد المحدد، فإذا استنشق وهو في طريقه إلى العمل رائحة «شاورما» – مثلاً – فإنه يغير اتجاهه ويتناول الشاورما، ثم يغسلها بكوب شاي أسود، ولا بأس ببعض الشيشة أو النارجيلة للهضم، وبعد ذلك يذهب إلى مكتبه. وفي الممر المؤدي إلى المكتب يجد مجموعة من الزملاء يقومون بتحليل نتائج مباريات دوري كرة القدم داخل المكاتب فينضم إليهم لأن «الأصول» تقتضي عدم تجاهل الزملاء، وبعد أن يصل ذلك التحليل الرياضي إلى نقاط الخلاف المعهودة، يتوجه الجميع إلى مكتب المدير ليتولى التحكيم والفصل بينهم لأنه صاحب الكلمة الأخيرة حتى في النقد الرياضي، مما يدل على أننا قوم منضبطون، ونحترم السلطة في جميع أشكالها ومستوياتها.
jafabbas19@gmail.com