منى عبد الفتاح : زمن الضحك المحظور
تشكّل الوسائل الإعلامية فضاءً محدوداً لتصدير العمل الكوميدي، على قلّته، باعتباره جزءاً من ثقافة الصورة. وليس غريباً تراجع رصيد هذا الفن والأسماء الإبداعية التي ارتبطت به؛ مع غياب دواعي الابتهاج إلى أجل غير مسمى، لكن دواعي التعجّب أن تأتي المعالجة من هذا المكبوت المُترّصّد من السلطات على أشكالها المختلفة.
تُستثار النفس، أحياناً، بشيء من الحماسة، عند مشاهدة شبابٍ، وهم يشقون طريقهم إلى مرافئ الإبداع المختلفة، غير آبهين ولا منتظرين الفرص التي يمكن أن تأتي أو لا تأتي. وفيهم من وجدوا أنفسهم يمثلون جيلاً بكامله، فاقتحموا العمل الكوميدي من مشكاة حساباتهم الخاصة.
غادرت النكتة وظائف التسلية، وغادرت الأعمال الكوميدية الاحترافية. وتمّ فتح الباب واسعاً من جهات أخرى، كانت أضيق من أن تستوعب نكتة واحدة، فأصبحت، وبمجهود هؤلاء الشباب الذي أثروا التجربة بمجهوداتهم الشخصية، نوعاً من التفاعل والعلاقات التي تربط الفرد بمجتمعه. وعلى الرغم من أنّ هذه الأعمال لا تحمل طابعاً جدّياً يحاسب عليه الفرد، إلا أنّها تنوء بمضامين ودلالات كثيرة، هي متنفس ضروري، يعبّر فيه الأفراد عن دواخلهم، بكل صدقٍ، عن ألم الواقع المعيش المضحك حدّ البكاء. وكثيرٌ من هذه التجارب يجسّد أصحابها الإحساس بمسؤولية العمل الكوميدي رسالةً وفناً. وأمام هذا الزحف الغضّ، استشعر كثيرون من أهل الكوميديا الخطر على مواقعهم، لكنهم كانوا قد انغمسوا في التناقضات التي طمرت الإبداع في المجتمع العربي، وأخذت تتحكم في مفاصل حياته.
“حين بدأت الكوميديا، أخذت مادتها الرئيسة من تفاصيل حيوات الناس، اجتماعية أو اقتصادية أو سياسية”
حين بدأت الكوميديا، أخذت مادتها الرئيسة من تفاصيل حيوات الناس، اجتماعية أو اقتصادية أو سياسية. ففي حالات النكسات العربية في التاريخ الحديث، وصل جو التفكّه والسخرية إلى قمته اللاذعة، حتى تحولت إلى كوميديا سوداء. وفي الأوقات العادية، تتجاوز النكتة إطارها التمثيلي الضيق، وتتحوّل إلى نسيمٍ يلطف الجو بحنوٍّ وشفافية. وفي هذه الحالات تكون النكتة ملاذاً للإنسان من قسوة الواقع ومراراته، فيظهر الوجه الآخر لها معبّراً عن طعم لاذع، يظهر كلما تكدّر صفو الحياة أو توانى الناس عن الترفع بأنفسهم عن الخصال المحطّة للقدر الإنساني. وهنا، يبرز نصل النكتة الحاد يلمع في الظلام كي ينفذ إلى عمق الحقيقة.
أحدثت هذه التناقضات أمراضاً اجتماعيةً كثيرة، لا يمكن علاجها بجرعة طرفة أو فكاهة خفيفة، بل تحتاج إلى نوعٍ من الكوميديا السوداء التي تمثّل، في هذه الحالة، ترياقاً. هي النكتة والموقف الطريف المعبّر انتقاداً عن حالةٍ معينة، وهي الكاشفة، بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، عن الجوانب الخفية أو غير المسموح بانتقادها علناً.
ساهمت الأعمال الكوميدية الموجودة الآن في تدجين هذا النوع الذي يعكس النكتة، بعيداً عن التملق والرياء. ولأسباب عديدة لم يستطع الذوق العام اختيار خط مستقل ومميز، فنجد أنّ النكتة، في أحيان كثيرة، تفتقر إلى البراعة اللفظية في التشبيهات العكسية التي يتقنها أصحاب التنكيت القاسي الماكر، والذي يتجلى عبر عبثية الأشياء في الوجه التراجيدي الآخر للنكتة، ويكشف اللامعنى المختبئ وراء القناع. فكان أن خرجت النكتة على أصول اللعبة، وتحوّل دورها الرئيس، من ضحك مع الناس وتبديل شعور الألم بشعور الفرحة والبهجة إلى ضحكٍ عليهم، والسخرية على حالهم.
ظهر هذا التحدي في موضع آخر، بطله المواطن الصحفي الذي ظلّ يقدّم إسهاماته في أوقات الأزمات، وظهرت الحاجة له في ثورات الربيع العربي، وما بعدها من حروب. جمّلت هؤلاء كلهم روح التحدي، وزيّنت أعمالهم، فرعوا إبداعهم بأنفسهم، ولم ينتظروا برامج قنواتٍ تقتات من السخرية على المواهب الشابة، فأصبحت هي نفسها كوميديا داخل كوميديا لزجة.
فُتح باب الإبداع هذا على مصراعيه للمواطنين الكوميديين، ليعالجوا الأحداث بالنقد والمحافظة على التوازن الاجتماعي، وتجسيد الصراعات السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية بمفارقة ساخرة. ومع أنّ هذه التجارب جاءت متأخرة، إلا أنها نجحت، إلى حدٍّ ما، في ملء الفراغ، واستطاعت أن تثير موجات من الضحك المحظور.