جعفر عباس

أبو الجعافر المسطول رغم أنفه


طالعت ذات يوم إعلانا في الصحف عن رغبة السفارة البريطانية في الخرطوم في توظيف ضابط إعلام/ مترجم، وتقدمت للوظيفة وجلست للامتحان، وبعدها بكذا يوم ابلغوني أنني “نجحت” وحددوا لي موعدا للإنترفيو
وفي صباح اليوم المحدد لل (إنترفيو) جاءني صديق يقول إنه سمع أن الاختيار لوظيفة السفارة وقع على شخص مسنود من قبل شخصية سياسية معروفة، فلعنت خاش الخواجات الذين انتقل إليهم فيروس المحاباة، ودعاني ذلك الصديق لزيارة بعض أصدقائه العزاب، فوجدنا نحو ثمانية أشخاص يجلسون في غرفة مغلقة الباب والنوافذ، مشبعة بالبخور إلى درجة تؤدي الى ضيق في التنفس، لأن رائحة البخور اختلطت مع رائحة التبغ الذي كان قسم منهم يدخنه بشراهة، ثم سألني أحدهم وكان يعرفني جيدا عن موعد الانترفيو في السفارة البريطانية فأخبرته بحكاية الشخص الذي فاز بها بالواسطة، ولكن معظمهم ألحوا عليّ كي أذهب الى السفارة لإجراء الانترفيو، ” ، وقميص من هنا وجزمة من هناك وتوجهت ومعي ثلاثة منهم الى السفارة كي يضمنوا أنني لن “أزوغ” من الإنترفيو بسبب ما سمعته عن منح الوظيفة لشخص مسنود.
وجلست قبالة المستشار والملحق الثقافي ورددت على أسئلتهم بعفوية شديدة وأنا “على راحتي”، لأنني كنت مقتنعا بأن الانترفيو شكلي وان الوظيفة طارت سلفا. وهكذا جلست أبادلهم القفشات والدعابات وفوجئت بانتهاء الانترفيو بالمستشار يقول لي: كنت صاحب أفضل نتيجة في الامتحان التحريري، ونحن نعرض عليك الوظيفة وشروطها ومزاياها كذا وكذا،.. ولما سمعت رقم الراتب خرجت عيني اليسرى من محجرها (يعني إحوليت يا رجالة)، وخرجت من السفارة وأنا أصيح: يييهووو! وعدت الى بيت العزاب وأمضينا بضع ساعات في الضحك المتواصل.
بعد التحاقي بالعمل في السفارة بنحو اسبوعين سألني المستشار عن سر رفعي التكليف مع لجنة الانترفيو، في حين أن طالبي الوظائف عادة يحاولون أن يكونوا “تقيلين”، وأفشيت له السر: العزاب الذين وجدتهم جالسين في غرفة يملأها البخور.. كان منهم نحو أربعة يدخنون البنقو، وكان دور البخور “التغطية” على رائحة البنقو الكريهة، ولأن الغرفة كانت صغيرة ونوافذها مغلقة فقد انسطل ابو الجعافر بنظام التدخين السلبي passive smoking يعني شفطت الهواء الملوث بالبنقو.. عرفت هذه الحقيقة من قرناء السوء أولئك لاحقا بعد عودتي من السفارة، لأنني أصبت بصداع فظيع بعد مجالستي لهم بساعات وقالوا لي إن انبساطي والضحك والتهريج الذي مارسته في ذلك اليوم كان فوق العادة بتأثير ذلك المخدر
المهم أن تتذكر أيها القارئ أنني لم أفز بتلك الوظيفة لأنني كنت مسطولا، بل لأنني كنت في كامل قواي العقلية عندما جلست للامتحان التحريري، ولو جلست للامتحان وأنا تحت تأثير الانسطال السلبي لأجبت عن السؤال: ما هي اليونسكو؟ بأنها نوع من القهوة، وأن اليونايتد نيشنز United Nations فريق في الدوري الإنجليزي.
كان مستشار السفارة الذي أجرى معي الانترفيو اسمه رونالد قرايمز وكان يجيد العربية، وكان كل ما مر بي يردد: البنقو السوداني.. بنقو.. البنقو الفي كياني .. بنقو
وأهم ما خرجت به من تلك التجربة أن البنقو عفن ويسبب العفن في الدماغ، واقسمت بعدها أنني لن أجالس شخصا يدخن شيئا غير أنواع السجائر المعروفة، ثم شربت المقلب مجددا عندما وجدت صديقا يجلس في شارع النيل وهو يدخن سيجارة بنسون فقلت له إن صلاحية سيجارته منتهية لأنها عفنة الرائحة، فاعترف بأن سيجارة البنسون محشوة بخلطة بنقو، فصرت أشك في كل شخص أجده يدخن بعيدا عن الناس أو في غرفة مغلقة