حريّة الصحافة.. تعادل سلبي
مباشرة، يبحث بعض كُتَّاب الصحف من ذوي التوجهات المتماهية مع (السلطة)، ما إن تطل برأسها (أزمة) عن أسبابها في (الخارج)، لأن الداخل بالنسبة لهم ليس مأزومًا أصلًا، وإنما هي المؤامرات الخارجية من تنتج أزماته كلها، حتى أزمة الغاز ورفع الدعم وانهيار التعليم وتفشي الفساد. هؤلاء لا يخدمون – إعلاميًا – الجهة التي يساندونها، بل يشتغلون على العصف بها وإطاحتها، كونهم لا يقولون الحقيقة.
والحقيقية أن أزمات هذه البلاد ليست بسيطة، ولا هي بحاجة إلى قوى خبيثة أو قوى خارجيّة ومتآمرة كي تندلع. لذلك عليهم الآن – وقبل فوات الأوان – العثور على لغة جديدة، تنطوي على معانٍ سياسيّة واجتماعيّة، وثقافيّة، تعبر عن الواقع والوقائع والحادثات بصدق، ومن ذلك أن يعترفوا أولًا أن جذور أزماتنا داخلية، ثم من بعد، فلا بأس من الحديث عن امتداداتها الخارجية.
بطبيعة الحال، فإن الأدوار الخارجية لا يمكن أن تُغفل، لكن الأزمات تُنتج في الداخل، ثم تُساق إلى خارج البلاد لتنضج أكثر، ثم تُعاد إلينا سميكة المتن، قوية الشوكة والشكيمة، تمتلك مستويات عسكرية وسياسية وعلاقات دولية وإقليمية وأبواق إعلامية، لا تقل كفاءة ونفاذاً عن تلك التي لدى الدولة نفسها، إن لم تكن أكثر فاعلية منها – في الخارج – على الأقل.
لذلك، فمن المهم أن تتخلى الدولة عن الإعلام، وتلغي وزارته وتصرف وزيرها، ثم تبذل الحريات والبيئة المناسبة والكوادر المؤهلة للاشتغال في هذا الحقل الحيوي، على أن يكون القضاء هو الفيصل في فض ما قد ينجم من تشابكات واشتباكات.
لكن، أن تسعى الحكومة لدمج الصحف، وأن تتبنى (باقة) من الصحفيين منافحين ومدافعين عن سياساتها، فإن ذلك لن يفيدها في شيء، ولتنظر ماذا تحقق لها من تجربتها الطويلة في هذا الصدد، هل غيّر هؤلاء الكُتّاب الصورة الذهنية للعالم الخارجي عن الحكومة؟ أم جعلوها أكثر سلبية وتدهورًا؟ ثم ماذا كان مصير الصحافة الرسمية، رغم ما بُذل ومُد إليها من إمكانيات ضخمة؟ ماذا كان مصيرها، ليس على مستوى تغيير الصوررة الذهنية في الخارح (سالف الإشارة)، بل حتى مستوى المنافسة التجارية داخل (أكشاك) بيع الصحف في الداخل؟ أين ذهبت صحيفتا الأنباء والرائد؟
ما يحدث الآن، يشي أن ثمة أمراً يُحاك، وأن ترتيبات ما تجري فيما يخص الصحافة، وهي في الغالب ترتيبات ليس للأفضل، وإنما للأسوأ، هذا مع الاعتراف بأن واقع الصحافة الراهن غاية في التردي، لكنه – وبتلك الترتيبات – التي يجري الحديث عنها، سينهار تمامًا، لا شك لدي في ذلك.
على كلٍّ، ما بمقدرونا أن نفعله الآن، هو أن نتكلم (نكتب) لنُعبر عن خشيتنا على مهنتنا، مع معرفتنا التامة بأن المشكلة لا تكمن في الكلام أو الصمت، بل في ما يُحاك (تحت تحت)، كما في مقدور الجهة المقابلة (الحكومة) ومُتكلميها أن يفعلوا المثل، لكنهم ما لم يَسَعْهم أن يطوّروا (كلاماتهم) بما يتعدّى الشعارات والعناوين العريضة إلى مواقف تنطوي على شيء من التركيب حيال المسائل الملحّة كحرية الصحافة، لكن إذا شعروا أنهم لا يملكون من التأثير ما يسبغ على آرائهم فعاليّة تتعدّاهم، فإنه لا فرق (بيننا) و(بينهم)، وبالتالي فإن التعادل سيظل سلبياً دائماً.